سحرية المكان في سرد عمَّار علي حسن

بهاء الدين محمد مزيد

ثمرة جديدة في بستان الواقعية السحرية العربية. تلك هي رواية «خبيئة العارف» (الدار المصرية اللبنانية) للكاتب المصري عمّار علي حسن. فيها ما في سابقاتها من رواياته من سحر العنونة وبلاغة التعارض ورحابة الواقعية السحرية الصوفية. في العنوان طباق بين «خبيئة» وبين «العارف»، الاختباء اختفاء، والمعرفة كشف واكتشاف. لا تكون الخبيئة في مكان ظاهر مكشوف منير. الخبيئة كنز أو سر، خبيئة تبقى إلى نهاية الرواية عالقة مؤجلة. لكن الرواية لا تجتهد في أن تكون بوليسية، بل تبقى نصَّ كشف واكتشاف. اكتشاف العالم بما فيه من أسرار وعلاقات قوة وهيمنة، واكتشاف النَّفس بما فيها من قوة وضعف، وكيف يُكتب التاريخ. هذا بعض ما في «خبيئة». أما «العارف» فهو من يعرف، أي من يعلم بعد جهل، وفي الكلمة تاريخ من الدلالات لا قبل لمقام واحد باشتمالها، لكنها تشير بلا مواربة إلى العرفان (ما تدركه بالقلب، ولا يدركه أحدٌ معك)، لا إلى المعرفة (ما تدركه بالعقل، وقد يدركه معك غيرُك) وحدها، إلى الصوفية والتنسك، ويكثر أن تتبعها في لغة أهل مصر عبارة «بالله». لكن العنوان وبداية الرواية يتركان أبواب الأسئلة مفتوحة على مصارعها– عن طبيعة الخبيئة، وعن حقيقة نسبتها إلى العارف. وهذه بعض متعة العنوان، يمنح ويمنع، يكشف ويحجب، يستسلم ويراوغ، ويغري بالقراءة لاكتشاف ما في النّص من «خبيئات» و«خبايا».
ليس في عنوان الرواية ما يحيل إلى مكان أو زمان، لكن الكلمتين، «خبيئة» و «العارف» تستفزان إيحاءات ومشاهد وتوهمات عن أماكن «محتملة» تستقر فيها «الكنوز» و «الخبايا» في باطن الأرض أو على ظهرها، وأماكن حقيقية يكثر فيها أن يمارس «العارف» شعائره وطقوسه. وفي العنوان- على هيئته هذه- فخٌ سيقع فيه لا ريب هواة البحث عن الحكاية على حساب الحكي، وعن المعاني الظاهرة على حساب الأخرى الباطنة والإيحاءات.
في «خبيئة العارف» رحلتان- ذهاب وراء الخبيئة يستلزم البحث في سيرة شيخ «الطريقة العزمية» وآثاره ومريديه، وإياب في رحلة جديدة لغايات جديدة وكنز جديد، هذه المرَّة الخبيئة مكانها الروح والقلب، لا باطن الأرض، وهرباً من إغراء المنصب الذي تقابله تنازلات. حين تتحرَّك الشخصية– الدكتور خيري حافظ المؤرخ الذي يتلقى تكليفاً من قصر الحاكم بتعقب آثار شيخ الطريقة الذي نسب بعضهم إليه عثوره على خبيئة هائلة من الذهب، تنتقل من عالم إلى عالم في المكان من القاهرة إلى المنيا وأسوان والسودان وغيرها. وفي الزمان تستعيد ما كان من خبر الشيخ وكراماته وحكاياته وأفعاله وأقواله بحثاً عن خيط ينتهي بالباحث إلى مكان الكنز، وقد أصبح قضية قومية ووجد فيه القائمون على أمور البلاد طاقة نور تخرجها من أزمتها الاقتصادية الطاحنة. تنبئنا الرواية أن مقدمات السير أو أسباب الرحلة هي حكايات عن كنز مخبوء تحت الأرض تناقلتها الأجيال من مريد إلى ابنه، ثم إلى حفيده (عليوه) وزميله (ماهر)، الموظفين في الأوقاف، فناظر وقف البلد، ثم إلى قصر الحاكم، ثم ساحر مغربي موثوق، فمؤرخ خبير يكلف بمعاونة الساحر. دافع القصر هو البحث عن مخرج من الأزمة، ودافع المؤرخ نيل رضا القصر، ومن ثم منصب جامعي مرموق.
أما السائر فهو خيري حافظ المؤرخ، في رحلته الأولى وراء حياة شيخ «الطريقة العزمية»، وفي رحلته الثانية التي أزمعها في نهاية الرواية بحثاً عن السكينة وهرباً من تكليف رسمي بكتابة مقالات لتحقيق غايات سياسية لا يعلم خلفياتها إلا القائمون على أمن البلاد. وكان خيري حافظ سائراً يتعقب سائراً، مؤرخاً يقتفي آثار ترحال الشيخ أبي العزائم في ربوع البلاد.
أما مسار الطريق فهو من القاهرة إلى الشرقية إلى المنيا وأسوان، فوادي حلفا وسواكن والسودان، ثم مقر «الطريقة العزمية». في مسار خيري حافظ استرجاع لرحلة أخرى هي رحلة الشيخ أبي العزائم من شمال البلاد إلى جنوبها. سار المؤرّخ يبحث عن آثار الشيخ الكبير ومن قبله سار الشيخ معلّماً وداعياً وترك في كل موضع حلَّ فيه أثراً من المعرفة والسلوك. في الرواية مسيرات صغرى وأخرى جانبية لشخصيات وأفكار وممارسات، منها مسيرة السحر من مصر إلى المغرب، ومسيرة التصوف من المغرب إلى مصر.
وفي الرحلة تتراءى لنا معالم عدة: مساجد وأضرحة وبيوت، من قصر الحاكم، إلى نظارة وقف البلد، إلى بيت «مرتضى» مريد الشيخ في المنيا. كان على خيري حافظ أن يبذل جهداً كبيراً، فقد تغيَّرت البلاد مذ كان طالباً يدرس التاريخ في جامعة المنيا، ولم يبق من مريدي الشيخ الكبير إلا قلة قليلة. وفي الرحلة مشاهد دالة، منها ما رأى الدكتور المؤرخ في إدفو «من حُمَّى نبش المقابر، وحفر الأرض، بحثاً عن المخبوء في باطنها». وتأتي علامات الطريق عبارة عن إشارات قد تختلط وتلتبس بالمعالم، لكنها لا تتطابق بالضرورة معها. العلامة الكبرى التي سار وراءها المؤرخ هي حياة الشيخ وترحاله والمواضع التي نزل بها وأقام. ولم يبلغ المؤرخ يقيناً عن الكنز المنشود، مع أنه وقع على كنوز غيره لا حصر لها، وحظي بها معه القارئ، بل منح رجال الأمن حبلاً يلتف حول رقبته هو شخصياً ليصبح أداة في يد السلطة، ومن ثم لم يحظ بالرضا ولا المنصب الذي كان يحلم به.
وفي وصف المسيرة والمسار، سطّر المؤرخ ما وجدَ وما عاينَ في تقرير رفعه إلى قصر الحاكم، لكنه لم يصل إليه بعد أن توسَّط الأمن بين التقرير والحاكم. هذا هو الشكل السردي المهيمن على معظم الرواية. وفي غير موضع مِن التقرير يتوسَّط المؤرخ بين التقرير والمتلقي الأول، وهو الحاكم، والمتلقي المفترض وهو القارئ ليشير إلى بعض دوافعه وأسلوبه في الكتابة ومشاعره وهو يعاين وهو يكتب، وموقفه من صدق ما يرد في التقرير وكذبه. وفي الرواية إجابة عن سؤال مهم عن أسباب انحراف الكتاب والمؤرخين عن حقائق التاريخ، خوفاً من بطش أو طمعاً في مغنم أو كليهما معاً.
تأتي في النهاية ثمار المسيرة، غير المخطَّط لها، حين رأى خيري حافظ كنوزاً غير الكنز الذي كلَّفه قصرُ الحاكم بالسعي في العثور عليه أو على بعض ما يشير إليه، رأى آثاراً يكتشفها العامَّة ويتاجرون فيها، ورأى بشراً، ومعرفة الناس كنوز، وعرف كثيراً عن الشيخ أبي العزائم، كنز مريديه الأكبر، بعبارة «مرتضى»، وذاقَ، ومَن ذاقَ عرفَ، ورأى في البرلس كيف كان الشباب يهدرون كنز قوتهم في اللهو ولو أرشدَهم ناصحٌ أمين لتبدَّلت أحوالهم، وعايَنَ كنزاً حقيقياً لا وهماً أو سراباً في بحيرة البرلس، وكنز «الطريق الأسمى» الذي تكلَّم عنه الشيخ الكبير إلى مريديه وكتبَ عنه، وكنوز القلب التي أشار إليها الرجل الأسطوري الذي عاوَدَ الظهور في مواضع شتَّى وهو ينصح الباحث عن كنز ذهبي فانٍ، فيقول له: «احفر هنا»، مشيراً إلى صدره.

(الحياة)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى