سردية الصحراء في أعمال بسمة الشريف وعلي شري

 

*أنطوان جوكي

 

لم تكن إقامة التشكيلية الفلسطينية بسمة الشريف والتشكيلي اللبناني علي شرّي في باريس منذ العام الماضي -ضمن دعوة من إحدى المؤسسات الفنية العريقة الفرنسية- مبررا وحيدا لإقامة معرض مشترك ينظمه لهما حاليا غاليري “إيمان فارس” الباريسي، فثمة تجاوب في طبيعة أعمالهما المعروضة، وإن اختلف مسعى كل منهما عن الآخر وطريقة عمله.

في معرض تفسيرها الفكرة التي تقف خلف تجهيزها الأخير “هاي نون” المعروض حاليا، والذي يتألف من فيديو وثماني صور مستقاة منه، تقول الفنانة الفلسطينية “كل نقطة على الأرض تقاس وفقا للمسافة التي تفصلها عن خطي الطول والعرض الخياليين. وتثبيت نقطة التقاء هذين الخطين حصل عام 1884 في مدينة غرينتش البريطانية، بينما فُصل النصف الشمالي للكرة الأرضية عن نصفها الجنوبي بخط خيالي آخر يدعى خط الاستواء، ويقع على مسافة معادلة من القطبين الشمالي والجنوبي”.

وتضيف بسمة “قبل ذلك التاريخ، لم يكن هنالك نظام زمني معتمَد دوليا ولا وسيلة لتحديد بداية النهار أو نهايته، وبالتالي طوله، فكل منطقة من العالم كان لديها نظامها الخاص”.

 

محنة الترحال

على ضوء هذه المعطيات، يُسقطنا تجهيز الفنانة بسمة في مستقبل لا شمال فيه ولا جنوب ولا شرق ولا غرب، وبالتالي يذهب بنا إلى مكان يجعلنا نعبر الزمن والفضاء، ويمكننا فيه أن نتخيّل أنفسنا في جميع الأمكنة في آن واحد. ولذلك، عمدت فيه إلى التقاط مشاهد طبيعية من مكانين في لحظة واحدة عابرة: الشاطئ الغربي من كاليفورنيا الجنوبية وجنوب شرق آسيا.

مشاهد تبدو على شكل فردوس بألوانه الخارقة والمتحوّلة بشكلٍ مستمر، وبخلفيته الموسيقية التي تحضر على شكل حلقات مغلقة ومتواترة، وبالانطباع الذي يمنحنا إياه لدى التأمّل فيه، بأننا نقف في لحظة ما على الأرض، لكن “بالمقلوب”.

وحول هذه النقطة، تقول بسمة “كفلسطينية منتمية إلى شعب مقهور ومنفي ومجبَر على الهجرة والترحال، تدفعني تجربتي إلى استكشاف الإحساس بفقدان أي مَعلم أو أصل، وهو ظرف يمتد إلى أبعد من المشهد الفلسطيني، ويجد ملجأ له في ابتكار صحراء خيالية”.

أما عنوان التجهيز “هاي نون” الذي استعارته الفنانة من أفلام الوسترن الأميركية، ويدلل على نقطة التقاء الخير والشر، وبالتالي على المحنة التي اختبرها رعاة البقر والهنود الحمر، فيدعونا إلى إسقاط أنفسنا في المستقبل أبعد من المواجهة.

 

 

الخيال والأسطورة

من جهته، يقود علي شرّي منذ فترة أبحاثا حول المقاربات المختلفة لعلم الآثار في الشرق الأوسط وآسيا الوسطى.

وحول تجهيزه المعروض حاليا والذي يتألف من فيديو وصورة مستقاة منه وبعض القطع الأثرية، يقول شرّي “يستكشف مسعاي الفني عملية تشييد الهوية الوطنية في ميدان علم المتاحف والقطعة الأثرية، فعلم الآثار يشكل الخيال الأيدولوجي والأسطورة المؤسسة لشعب ما، عبر نبشه ونفضه الغبار عن القصة السلالية التي تعيد خط ماضي أسلافنا وتطورهم ومُثُلهم، كما أنه يرسم ويحدد النطاق الديمغرافي والجغرافي للدولة الوطن”.

ومن خلال تحليل هذا الميدان العلمي الذي غرضه جمع التحف الأثرية، وتفسير ما تثبته هذه القطع أو تنفيه على مستوى السرد التاريخي ومساءلتها، ودراسة مواقعها كأماكن طعن وتشكيك سياسي، يأمل الفنان إبراز الديناميكيات الصغيرة والنماذج والبراهين التي تبين أن الجغرافيا مكتوبة مثل التاريخ.

وفي هذا السياق، قادته المرحلة الأولى من مشروعه إلى تصوير موقع أثري يجمع عدة مقابر من العصر الحجري الحديث في صحراء إمارتي الشارقة وأبو ظبي. وأبعد من علم الآثار كتجسيد ملموس للتاريخ، تمنحنا الصحراء الماثلة في عمله صورة جيولوجية تكتونية، كما تحرر خصوصا صورة هي عبارة عن راسِب لحقبتنا.

وبالتالي، تقترح الصحراء كمشهد متخيل أو خيالي -وفقا لشرّي- سردية غير مشيدة حول الأثر أو القطعة الأثرية أو الأطلال، بل حول سيرورة الامِّحاء الدائم تحت رملها.

المصدر: الجزيرة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى