سر اختفاء عرب فلسطين وتبعاته في رواية ابتسام عازم “سفر الاختفاء” / ثورة حوامدة

 

الجسرة الثقافية الإلكترونية –خاص – 

 

في بحثها عن منطقة جديدة لتبدع في الكتابة عن الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، الممتد على هذه الأرض منذ عشرات السنين، نسجت الروائية الفلسطينية ابتسام عازم خيوطا متشابكة لعلاقات إجتماعية بين أبطال الرواية ، أمسكت بشخصية ” تاتا هدى ” التي كانت نبض يافا في حياتها وبعد موتها، وكيف أن لها بصمة في كل كلمة في الرواية التي نسجت منها مقطوعة جتماعية ، حيكت بلغة قوية وبتسلسل قوي على مدار 239 صفحة يجعل القارئ يتربص للكلمة المقبلة بكل شغف.

لبيت الجدّة العتيق في يافا ذكريات كتبها “علاء” بطل الرواية في دفتره الخاص ، نزفت كلماته على الورق الكثير من الحنين ليافا قبل الاحتلال، وللعجمي والمنشية اللتين ما زالتا تقفان في وجه التهويد بكافة أشكاله ومعانيه ، البحر الذي يموج بتاريخ المدينة وأهلها  ، وخاصة حكايات ” تاتا هدى” ، وأنها اختارت لموتها أن يكون غريبا أمام البحر ، وحيدة كانت على المقعد تروي الحكايا لحفيدها ، والياسمين الذي أبدعت في زراعته ، يشق رائحته وسط الروائح التي تعج بالمكان وغربته .

في قصة غريبة ومختلفة عمّا كتب في تاريخ الصراع ، اختارت الكاتبة في روايتها ” سفر الإختفاء ” ، قضية تعرض فيها الموقف الإسرائيلي ، من وجود عرب فلسطين داخل الدولة المزعومة ، من خلال فكرة غريبة ولم تتم معالجتها سابقا في الكتب والروايات التي تحدثت عن الصراع المعروف على أرض فلسطين ، وكانت الفكرة أن يختفي الفلسطينيون في الداخل المحتل في ظروف غامضة ، وقام الإسرائيليون بعمليات بحث وتمشيط دون نتيجة تذكر على المكان الذي رحل إليه الفلسطينيون ، وأصبحت قصة اختفائهم حديث الساعة ، ومصدر خوف وقلق وفرح في نفس الوقت .

 استطاعت الكاتبة عرض وجهات النظر المختلفة للسكان اليهود داخل الدولة،  فهناك من اعتبر أن الاختفاء هو الحل الوحيد ليعيشوا بسلام، على بقعة تجمع اليهود بمعتقداتهم، ومنهم من جعل الاختفاء مقدمة لعواقب قادمة، فزعموا أن لجيش الدفاع اليد الطولى في ذلك، وأنه يقوم بحملة تطهير عرقي ، وذهب لهذا الرأي الاتجاه اليساري ، فقالوا إن هذا لا يمكن أن يكون إلا نتيجة للممارسات التطهيرية ، التي تنوي من خلالها الدولة بناء دولة يهودية صهوينية على كامل التراب الفلسطيني .

“أريئيل” الصحفي اليهودي ، كان له الدور الأكبر في سرد ذكريات صديقه الفلسطيني “علاء” ، بعد أن وجد دفتر مذكراته ، ونسج لنا من خلال قراءته ، علاقة ” تاتا هدى”  بابنتها ،  كانت تمقت فيها تبلدها وعدم إحساسها بالحياة ، وعلاقتها بزوجها الذي تركها ورحل مع الذين رحلوا عام 1948 إلى بيروت ، وعلاقتها بالجارات في يافا القديمة وحبها للحياة وعشقها ليافا  وللمباني والعمل الذي كانت تحبه وتتقنه على ماكنة الخياطة .

في المجتمع الإسرائيلي ، ظهرت بعض المفارقات البسيطة ، لا يتقن الحديث عنها سوى من عاصرها وعاشها ، فالعلاقة بين اليهود المقيمين في إسرائيل  وفلسطينيي الداخل كانت لها عدة تبعات ، ، كما  كانت هناك علاقة قوية بين المسلمين والمسيحيين وأنهم يذوبون في قالب واحد مهما تعددت الديانات ، فالتواجد الفلسطيني في داخل الدولة المزعومة يخربط دائما الخريطة السياسية الداخلية ، سواء من خلال برامج انتخابية في الكنسيت ، أو من خلال الحقوق الواجب توافرها للفلسطينيين ، وظهر أيضا نسيج الترابط الضعيف لليهود داخليا ، فمنهم من انقسم على دولته فور أن حدث الاختفاء ، وبدأ يتربص للموت القادم ، ولا ينسى أن بعض اليهود فقدوا أصدقاءهم الفلسطينين ، ومنهم من أقام الاحتفالات والرقص وتزيين الشوارع .

في قراءة للمشهد القادم قيما لو أقيمت الدولة العبرية ، ذهبت الروائية إلى نقطة مهمة بعد قضية الاختفاء ، فقد أصدرت الكنسيت قانونا ينص على ضرورة عمل إحصاء للسكان المتبقين في داخل إسرائيل بعد مغادرة الفلسطينيين بإرادتهم ، وأسرلة الممتلكات والمباني والأراضي التي يمتلكونها ، وتصبح ملكتيها للدولة ، ويظهر هنا دور ” أريئيل ” ، عندما استولى على بيت صديقه علاء ، وأقام فيه طوال مدة الاختفاء ، وخوفه من عودة الفلسطينين بعد سماعه لصوت أحدهم بالقرب من الباب في ساعات الليل المتأخرة ،  وهذا يدل على أن البقية الفلسطينية التي ما زالت تخوض صراعا عنيفا ضد الكيان وضد الانخراط فيه ، وبأن تواجدهم في فلسطين الداخل ما هو إلا إثبات لاسم فلسطين في حلق كل يهودي ينكر حقوقنا التاريخية .

الرواية تحمل الكثير من القصص الشائكة اجتماعيا وسياسيا ، وتعالج موضوع القدرة على الفصل بين اليهودي الرافض للدولة الفلسطينية على كامل التراب الفلسطيني وبين اليهودي الذي لا يريد إلا سلاما ومنع إراقة الدماء ، وبين اليهودي الذي يرفض المنهج المتبع في السياسية الصهوينية داخليا وخارجيا .

لن نشعر بقيمة ما كتبه “علاء” في مذكراته إلا إذا كان البحر ويافا وحيفا جزءا لا يتجزأ من ذاكرة الدولة الفلسطينية بكامل حدودها التاريخية التي لا مجال للنقاش فيها ، ولن نشعر بما شعر به ” أريئيل ” إلا إذا عايشنا الفلسطينيين الذين كان همهم الأكبر داخليا أن يحافظوا على تواجدهم في المنطقة مهما اشتد الصراع , ولن يشعر بقيمة التهميش للفئات داخل المجتمع الإسرائيلي إلا من عايش الحانات والبارات والكؤوس التي تقرع لنسيان الواقع بالنبيذ والخمر .

رواية تمزج السم بالعسل، تطوف في شوارع البلاد العتيقة ، وعلى مرمى النظر يخطو الفلسطيني في بلاده داخل الدولة بكل ثقة ، فليس هناك حق في الوجود كحقه للبقاء والدفاع عن وجوده ووجود فلسطين في داخله .

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى