سلّم الحضارة.. وما بعد الصحوة

الجسرة الثقافية الالكترونية
*سلمان السليماني
المصدر: الحياة
كنت قد تناقشت مع الدكتور عبدالله الغذامي في «تويتر» -عبر الرسائل- موضوع «الثقافة الفاعلة والثقافة المنفعلة»، والذي كان عنواناً لمقالتي الأخيرة في صحيفة «الحياة»، عدد (الثلثاء، ١٤ أبريل 2015)، إذ أوضحت للدكتور أنني كنت أحاول الإشارة من خلال المقالة إلى مسألة دقيقة لاحظتها في حركتنا الثقافة، وهي أن الأفكار والمشاريع الثقافية التي يتبناها المجتمع، بشكل عام، هي الأفكار التي تخلّى عنها الغرب الحديث تدريجياً، بمعنى أننا نأتي دائماً خلف التقدم متأخرين في صعود سلم الحضارة، مثال ذلك أن سلوكنا الاجتماعي يشبه مثلاً السلوك الاجتماعي والثقافي الذي كان يمارسه الغرب قبل 50 عاماً مثلاً، وينطبق ذلك على الأفكار الثقافية والأدبية والفكرية أيضاً، ففي الجانب النقدي مثلاً، فإن معظم نقاد العالم الثالث ولاسيما المنطقة العربية، يتبنون المناهج التي تخلّى الغرب عنها في ستينات وسبعينات القرن الماضي، كالبنيوية والتفكيكية، وفي المجال الفكري والفني هناك الحداثة وما بعد الحداثة التي تجاوزها الغرب الحديث ومفكروه وفلاسفته وفنّانوه وكتابه، في الوقت الذي لا يزال النقاش حولها قائماً في جنبات «تويتر» بين الحداثيين والمحافظين في إعادة سلبية لتفاصيل مرحلة انتهت من تاريخنا نحن وليس الغرب، وهي مرحلة الثمانينات من القرن السابق. وكنت قد ذكرت في مقابلتي التلفزيونية الأولى على الإطلاق على قناة الثقافية السعودية، التي كانت في وسط أيام الأسبوع وفي فترة الصباح! ولمدة 20 دقيقة تقريباً، أن نوع الشعر الذي يُكتب الآن في السعودية يشبه الشعر الذي كان يُكتب قبل 50 أو 60 أو حتى 70 سنة في ألمانيا وفرنسا وأميركا، لكن يبدو أنه لم يشاهد المقابلة إلى أفراد عائلتي فقط، فلم تكن ذات بال حينها.
من أجل ذلك وحينما عرضت هذه الفكرة على الدكتور الغذامي، أشار إلى أنه كان من الأولى طرح هذه الفكرة بشكل خالص ومفرد، لكنني تكاسلت عن ذلك على رغم أن الفكرة تختمر في رأسي منذ مدة طويلة من لقائي ونقاشي مع الدكتور الغذامي في فضاء «تويتر» الخاص. بعد ذلك وضعت الفكرة جانباً، وقرأت كتاب الغذامي الصادر حديثاً «ما بعد الصحوة-تحولات الخطاب من التفرد إلى التعدد»، الصادر عن المركز الثقافي، كانت قراءتي هذه بعد نقاشنا بمدة، واستوقفتني بشدة أطروحات الفصل الأول من الكتاب الذي كان بعنوان: علامات الصحوة، والذي هو عبارة عن توريقات نُشرت في ملحق الجزيرة الثقافي تباعاً. يقول الغذامي في التوريقة رقم 18: «هل أفكار الصحوة هي من صنع الصحوة.». وهذا سؤال فاصل يبحث في مرجعية الصحوة فكرياً، ويضيف بعدها: «كل الأفكار التي صاحبت الصحوة هي أفكار موجودة من قبلها (ومن بعدها) وليست من خاصية الصحوة ولا هي من إنتاجها». سأناقش أفكار الفصل الأول لكتاب «ما بعد الصحوة» لمصلحة ربط نقدي لهذه الأفكار بموضوع المقالة الرئيسة وهو موضوع وصولنا متأخرين دوماً بعد الغرب الحديث فكرياً وثقافياً واجتماعياً. وهنا أوضح أن الغذامي ذكر في معرض توريقاته في هذا الفصل أن الصحوة كانت حركة حشدية، ليست قائمة على مرجعية فكرية، وأنها أتت في أعقاب انهيار المشروع القومي العربي، أو العروبية بتعبير آخر، إذ أشار الغذامي إشارة صريحة إلى أن الحالة العروبية والصحوة عبارة عن حالتين رمزيتين وليست نتاجاً لاختمار فكري، وليست قائمة على تصورات فكرية. السؤال: هل هذا ينطبق على السعودية فقط؟ هل هو حال كل حركة أو تيار، أو تشكّل معرفي أو ثقافي أو سلوكي؟ هل كل هذه التكوينات الناشئة، التكوينات التي تحدث داخل أوساط المجتمع عبارة عن حالات رمزية وليست نتاجاً لاختمار فكري أو أنها قائمة على تصورات فكرية ومرجعيات حضارية وثقافية؟ طبعاً التعميم هنا خطأ منهجي واضح، لكن هل يصح أن نطلق كلمة «معظم» هذه التشكلات هي كذلك؟ هنا بالتحديد أربط بين فكرتي السابقة وطرح الغذامي في الفصل الأول من كتاب ما بعد الصحوة؛ فإذا صح أن الحالة العروبية التي قامت على أفكار الاشتراكية، والصحوة التي عُدّت تياراً ضخماً ومؤثراً أحدث تغيرات هائلة في المجتمع السعودي؛ إذا عُدت هذه الحركات قائمة على التصور الرمزي، وأنها حالات حشدية «عبارة عن منظومة حشود محملة بأفكار معينة وسَمْت معين»، فما سبب غياب المرجعيات الكبرى لقيام الصور والتشكلات الفكرية والثقافية والاجتماعية الذي أدى إلى تخلفنا في اللحاق بالغرب الحديث زمنياً في سُلّم؟
أظن أن سبب وصولنا متأخرين في ركب الحضارة يقوم على مقولات رئيسة عدة، ولا يخفى على الكثيرين أن من أهم هذه المقولات أن «المغلوب يتبع حضارة الغالب» لكن السؤال الصحيح هو: لماذا يتبع المغلوب حضارة الغالب؟ ذكرت كتب السيرة أن اليهود عندما تم إجلاؤهم من المدينة المنورة إلى خيبر قاموا بالسيطرة والتسيد في تلك البقعة، التي استقروا فيها، على أهلها الأصليين، إذ كانت لدى اليهود مؤهلات تؤهلهم لهذه السيادة والغلبة، حيث ذكرت السير أن أحد اليهود عندما خرج مع الخارجين من المدينة كان يحمل جلد ثور مملوء بالذهب وقال هذا للخفض والرفع ويقصد لخفض الدنيا ورفعها، هنا، إشارة إلى السلطة الاقتصادية، إذ إن صاحب هذه السلطة يفرض منتجاته التي تشكل وتكون وضع السلوك والممارسات الاجتماعية للحضارة المغلوبة، بطريقة استخدامها وطريقة تسويقها ومجال استخدامها، تأتي بعد ذلك سلطة المعرفة، فالمعرفة قوة كما يشير إلى ذلك الفيلسوف الفرنسي ميشيل فوكو، والمعرفة تنتج الأدوات، ومن أخطرها وأقواها الإعلام، الذي يصوغ ويشكل بصورة احترافية مؤثرة شكل وملامح أي مجتمع أو حضارة مستهدفة من هذا الإعلام، من خلال ترويج الصيغ الغربية في فن العيش أو التفكير أو التأليف مثلاً.
نعود للتساؤل أيضاً، هذا على مستوى التشكل بملامح الحضارة الغالبة: ماذا عن التأخر؟ وهذا أعزوه، من وجهة نظري، إلى تدني الإدراك والوعي والقدرة على الإنتاج المعرفي لدى الحضارة المغلوبة؛ لأن السلطة الغالبة لا تسمح لها بامتلاكها لضمان السيادة، إما بوضعها دائماً في بؤرة صراعات إقليمية تلهيها عن التنمية، أو بدعم الحكومات المستبدة التي تعطل المشاريع الفكرية للمجتمعات، وأيضاً لعدم حيازة الحضارة المغلوبة لأدوات متطورة علمية ومعرفية ذاتية، كاستثمار الطاقات البشرية أو المادية التي تمكنها من التعامل مع الأفكار الواردة وإمكان التواصل معها ومعالجتها وإدراكها واستيعابها لمجاراة الحضارة والسير جنباً إلى جنب مع مستجدات المعرفة والفكر والاقتصاد، والسلطة التي تشكلها القدرة على التعامل معها وتسخير موادها الخام.
أعترف أخيراً أن هذا مبحث طويل وغزير لا يمكن إجماله في مقالة واحدة، لكنني أكتفي هنا في هذه الكتابة بتعليق الجرس، والإشارة إلى مكمن الخلل، بطرح السؤال الحقيقي، السؤال الصحيح، لأنه إذا كنا نبحث عن إجابات شافية، يجب أن نطرح السؤال الصحيح، والسؤال الصحيح هو: ما مراحل الفكر المثمر والثبات على سُلّم الحضارة؟