«سوريا» لسليم بركات.. الرِّواية الهُومِيرِيَة

الجسرة الثقافية الالكترونية
*صلاح بوسريف
المصدر: السفير
سليم بركات، كما كنتُ بَرْهَنْتُ على ذلك في أطروحتي «حداثة الكتابة في الشِّعر العربي المعاصر»، هو واحد من الشُّعراء العرب المُعاصرين القلائل الذين وَعَوْا بالشَّرْط الكِتابي في النص الشِّعري، وخرجُوا من «القصيدة» في بُعدها الشفاهي الإنشادي. كما أنَّه، أيضاً، بين الشُّعراء القلائل الذين انتقلوا من مفهوم «الديوان» بمعى الجمع، أي جمع نصوص كُتِبَتْ في ظروف وسياقاتٍ مختلفة، في كتابٍ واحد، وهذا هو السَّائد اليوم في الشِّعر العربي المعاصر، إلى العمل الشِّعري L›ouevre poetique بالمعنى الذي كان ذهب إليه رامبو في حُلُمِه بـ «كتاب الزِّنْجِيّ»، وذهب إليه غيره من الشُّعراء، من مثل مالارميه، ممن اقتنعُوا أنَّ الشِّعر المعاصر خرج من هيمنة الشَّفاهَة، وأصبح أكثر ميلاً للوعي الكتابي. ودواوين سليم بركات، في تَفْضِيَتِها، وتوزيعها الخَطِّيّ، تَعْتَبِر البياض، وتعتبر طريقة توزيع الأسطر، والمقاطع، واختلاف التوزيع الخَطِّيّ بين صفحة وأخرى، بين الدَّوَالّ البانية لشعرية النص. وكما أشَرْتُ أكثر من مرَّة، فالشِّعر، في الكتابة، أو الوعي الكتابي، لم يَعُد يكتفي بالسَّواد، أي بقراءة المكتوب، بل إنَّ لباقي الدَّوال الأخرى دورها في قراءة النص، أي ما يجعل من النص كتابةً بامتياز، ويجعل من الشَّفاهي، بتعبير هنري ميشونيك، يتراجع إلى الوراء، أو يتوارى، قياساً بحضوره في «القصيدة»، التي هي وعي شفاهي إنشادي بامتياز.
ما الذي جعل من سليم بركات، هذه المرَّة، يخرج عن السياق الذي فيه كان يختار عناوينه المُرَكَّبَة، أو ذات الإيحاءات الشِّعرية غير المُباشِرَة، إلى العنوان المُباشِر، الذي يخلو، للوهلة الأولى، من المجاز أو الاستعارة، ويخلو، بالتالي، من ذلك النُّزُوع الشِّعري، الذي غالباً ما يفرض على القارئ أن يقرأ النص كاملاً، في انتظار أن يَفُكَّ بعض أسرار العنوان؟
أولاً: الكتاب، هو نَصٌّ واحد مُتَوَاصِلٌ، لا عناوين ولا أرقام، ولا علاماتٍ تفصل بين مقطعٍ وآخر، البياض وَحْدَه، هو الذي يقوم بوظيفة تجسير العلاقات بين المقاطع، باعتباره دَالاًّ، وليس باعتباره انتقالاً من معنًى إلى آخر.
ثانياً: التِّكرارات اللفظية في الكتاب، وخصوصاً لفظة «البَلَد»، وما يرتبط بها من تعابير وصُوَر، هي إشارة إلى الجوّ التراجيدي المأساوي الذي في ضوئه تجري هذه المأساة الكبيرة التي يتدخَّل فيها أكثر من «إله». فـ «البلد» استحال، وفق ما يذهب إلى النص، إلى مَسْرَح دَمٍ ودَمارٍ كبيرَيْن، والإنسان فيه استحال إلى «هَتْك» و «قَتْل» و «نَهْب» و «خَسْفٍ»، أو إلى ساحة لـ «الغُزاااااااة» ] هكذا يكتبها الشاعر]، تعبيراً عن دُخول أكثر من طرف في «ثورة» تحوَّلت إلى دمار، و «إقامة في الذَّبْح»، وشَجِّ الرؤوس وقَطْعِها.
سوريا
لا وُجود في الدِّيوان لكلمة «سوريا» التي هي عنوان الكتاب، ولعلَّ في توظيف بركات لكلمة «البلد»، هكذا بالتعريف، ما يشي بِبَلَدٍ مُحدَّد ومعلوم، من جهة، وما يَشِي، بانتماء الشاعر للمكان، الذي هو دَمٌ شَخْصِيّ للشاعر نفسه. العنوان، إذن، هو تمثيل وإشارة، أو هو وضع اليد على جُرْح لم يتوقَّف نزيفُه بعدُ، ما يعني أنَّ سليم بركات، رغم هذا العنوان الفارِق في تجربته، فهو لم يستحضر هذا العنوان في النص، بل تمَثَّلَه في صورةِ، أو تسمية «البلد»، التي تدلُّ، في جوهرها على الانتماء الإنساني، لا الوطني أو القومي الضَّيِّق، وأيضاً، في ما تحتمله كلمة «بَلَد» من أبعاد، تعود بالكلمة إلى الشُّعور الدَّائم بالفَقْدِ والحنين: «أيُّها البَلَدُ. لا الرَّحِيلُ عَنْكَ رَحِيلٌ، ولا الرُّجُوعُ رُجوعٌ إليْكَ…».
لم يخرج سليم بركات عن اختياره الشِّعري، فهو كتب عن «سوريا» كما أرادَ هو، ووفق رؤيته ولُغَتِه الشِّعريَيْن، وليس بما يقتضيه الحَدَث من مُباشَرَة، كما حدث في أكثر من عمل شعري له علاقة بالموضوع. بل إنَّ سليم بركات، في اعتقادي، كان أكثر اقتراباً من المأساة السورية، قياساً بمن كتبوا عن سوريا، وكان أكثر مُلامَسَةً لهذا الجُرْح الكبير الذي طاول الإنسان والشَّجَر والحَجَر، و «ألَّبَ النَّافِذَةَ على البَابِ، والتُّوتَ على الكَرزِ». وفي هذا السياق، لا بُدَّ أن أشيرَ إلى أنَّ الشِّعرَ غير مُطالَبٍ بالاستجابة للواقع، أو بالمُحاكاة الأفلاطونية، التي اعتبرتْ الشِّعْر إفْساداً للِذَّوْق وللحقيقة، وللِنَّشْء في «الجمهورية»، فالشِّعر، هو ذَهاب للجوهر، وهو نوعٌ من التَّمَثُّل الشَّخْصي للواقع، الذي تتداخَلُ فيه عناصر، ومكونات عديدة ومختلفة. فـ «الإلياذة»، هي نص «حَرْب» و صراع بين البشر والآلهة، وصراع من أجل تحقيق الوجود على الأرض، من خلال طبيعة الأقدار التي تَسْتَحِْكِمُ الآلهة في حَبْك خُيوطِها، وهي اليوم، نصٌّ نقرأه، ليس باعتبار الحدث، أو هذه «الحرب» التي حدثَتْ في مكان وزمان مُحَدَّدَيْن، فما بَقِيَ من هذا النص الملحمي العظيم، هو رؤية هومير، وقراءته لِما جرى، ليس وفق ما جرى، بالحَرْف، بل بما كان الشَّاعر ]الراوية] يتَمَثَّلُه، ويَسْتَبْطِنُه من وقائع وأحداث، وَنَقْلُه لهذه التَّمَثُّلات من لحظة الظهور، إلى لحظة الكمون والتَّخَثُّر، أي النُّزول بها إلى قاع النص، وإلى عمقه الشِّعري، الذي يَنْجُو بالحَدَث نفسِه من الآنِيِّ والعابر، إلى الأبديِّ والخالِد.
الملحمة
هذا ما كان سليم بركات يذهبُ إليه في هذا العمل. ليس النَّصُّ ملحمياً، بالمعنى الهوميري، لكنه يمتح من الملحمة أنْفاسَها: جَوَّها الدَّموي العاصِفَ، صراع «الآلهة» والبشر، الخيانات والخُدَع التي حدثت بدخول «الغُزاااااااة» من خلال ذلك الحِصان «الطرواديّ» الضَّخْم الذي الْتَهَم «البَلَدَ»، وأجْهَز فيها على كل شيء، أو ما اعتَبَرَهُ الشَّاعر «أوْجٌ في أوْجِ الهَدْم» و «الرَّحِيل بلا جُلودٍ» و «كَيْل اللَّه، وَكَيْلُ الإنسان…»، بما يعنيه ذلك من تفاقُم المأساة، وانتقال، وتحويل «الثورة»، والرغبة في الحرية والحياة، إلى انكسارٍ، وإلى قَيْدٍ ضاعَف من قَيْد الأسْر، وحوَّل الرغبة في الحرية، إلي عَصْفٍ أسْوَأ من الموت نفسه، أي أنَّ «أواصر القَتْل» صارت «من سَيِّءِ المَوْتِ إلَى أسْوَئِهِ» وأنَّ الحرية صارت «خَطَأً لُغَوِياً» و «النَّبْرَةُ الخَطَأُ في الغِناءِ».
في هذا الكتاب، حَرِصَ سليم بركات على تحويل «سوريا» إلى ملحمة مُعاصِرَة، وتيرةُ المأساوي، أو التراجيدي فيها، عالية، بنفس عُلُوِّ المآسي التي كان الإنسان فيها حَطَباً لـصراع «الآلِهَة»، وإلى «مَعْنىً» يفيض عن المعنى، أو أنَّ «المعاني» بالجمع، كما يستعملها الشَّاعِر، قُصِمَ ظَهْرُها وشُرِّدَتْ خَنانِيصُها، «بَلْ تَقْوِيضُ الأرْكَانِ فَوْقَ الأزَلِ «.
ليس مُهِمّاً أن تكون هناك أصوات وأبطال ظاهرين لنا، لهم أسماء وعناوين، كما يمكن أن نقرأ عند هومير أو فرجيل، أو حتَّى في «الشَّهْنامة» و «المهاباتا»، وغيرها من الملاحم الإنسانية الكُبْرَى، فذات الشَّاعر، باعتبارها المُفْرَدَ المسكون بالكُلِّ، أو بالجمع، تكفي، في تَشَظِّيها هذا، أن تكون هي هؤلاء الأبطال، وهُم يتناسخُون أمام مرآةٍ مُتَشَظِّيَةٍ، ذات أضلاعٍ وزويا، لا يمكن للوجه فيها أن يظهر واحداً، أو تكون له بالأحرى، سِمات واضحة، ما دامَ «المَكَانُ تَذَرَّى» و «الوُجوه ]صارت] شَظايا».
استفراغ المعاني
ذِرْوَةُ المَأساة في هذا العمل الشِّعري التراجيدي، هو اسْتِفْراغ المعاني من «أنْفاقِها»، أو المعنى الذي اسْتَنْفَدَ معناه. حتَّى الهَرَب إلى اللغة لم يَعُد ممكناً، ولا الهرب من المعاني التي ارْتَسَمَتْ، في ما يجري، فـ «لا أنْفاقَ تَحْتَ الكَلِماتِ للهَرَبِ من المَعاني»، ما يُفْضِي، في ذِرْوَةِ المأساة، إلى الاختيار القاسي والصَّعْب، الذي هو المجاز الأكبر لهذه المأساة، أن يُغادِر البَلَدُ البَلَدَ، أو يَخْرُجَ البَلَدُ من نفسه، مِن جِلْدِه، ودَمِه، ويتلاشَى في هذا التَّشَظِّي العظيم، أو هذا الخراب الكبير «غَادِر البَلَدَ أَيُّها البَلَد. تَشَبَّثْ بِي مُغادِراً. أمِ العِنادُ مُرِيحٌ؟ عانِدْ إذاً. جُرَّنِي وعانِدْ. رُكْبَتَايَ خَارَتَا، والمَصَائِرُ خَارَتْ. لَيْسَ تُلامُ البُرُوقُ: المَذَاهِبُ وَاضِحَةٌ، والجِهادُ، حَيَّ على الرِّياحَ».
أمام هذا الانهيار، لا يتبَقَّى إلاَّ السُّخْرِيَة، وهي سخرية سوداء، أو هي بارُودْيا، هي ما يمكنها أن تَنْجُوَ بالمعاني، على الأقل من هذا الاسْتِفْراغ، ومن هذا النَّزِيف الذي تحوَّل معه الجسم إلى حياة بلا حياة، وإلى «بقايا قَصْرٍ، وغُزَاة حَرَسٌ». فَمَنْ يحرس مَنْ، ومن يخرج بهذه «النِّهايات»، كما يتصوَّرُها الشَّاعر، من هذا المأزق الإنساني الكبير، إلى «المَوْتِ» الذي تكون فيه النفس «آمِنَةً»!؟
لم يكن سليم بركات يكتب عمله هذا لِيُدَوِّنَ تفاصيل ما يجري، بل إنَّه كان، من موقع الشَّاعر الرَّائي، لا الراوي، وهذا هو الفرق بين الرواية الهوميرية، وما يكتبه بركات، هنا، يفضح هشاشة الوُجود، وهشاشة الإنسان أمام عراء، وخلاذ هذا الوجود. فما رَاهَن عليه الشَّاعر في «سوريا» هو اسْتِهجان البشاعة عبر الجمال. فهو لم يتنازل عن شعرية النص، عن غموضه وبما يحفل به من تعقيدات تعبيرية لا يمكن أن تصل للقارئ بِيُسْرٍ، رغم طبيعة «الحدث» الذي أعْلَنَ عنه بَدْءاً من عنوان الكتاب، بالقدر الذي يعمل على وضع هذا «الحدث» في السياق الهوميري، أي بمعنى «الشهادة» الشعرية الجمالية، على الفظاعات التي أكلَتْ الإنسان، وأكَلَتْ البَلَد، وقَضمَتْ، أو قَصَمَتْ ظَهْر المعاني، وأَفْرَغَتِ المعاني مما كان يمكن أن تُوحِي به من دلالاتٍ.