سوناتا الإحساس، والروح ترقص بالكعب العالي! ..جديد الكاتب لؤي طه

الجسرة الثقافية الالكترونية-خاص-

 

 

كلما تلعثمت في حروفها، راح ينحني برهافة وأدب؛ كمن يجمع حبَّات عقد ثمين، يلملم ما تناثر من حروف، فيقول ما كانت تنوي قوله؛ كما لو أنه يجلس عند شرفة أفكارها يلتقط الحرف تلو الحرف، ينظمها بعناية فائقة الذكاء يرسم لها خارطة الكلمات، كمصممٍ يرتبُّ لها أثاث مشاعرها بأناقةٍ باذخة الذوق، بروعةٍ أشدُّ مما كانت تحلم هي في ترتيبه. تتساءل: هل هو يسكنها، أم أن رأسها زجاج شفاف يُسهل عليه أن يرى ما خلفه، وما يجول في شوارع أفكارها؟ هو يقرأ صمتها ويطالع في جريدة أحلامها، يحلُّ صفحة  المشاعر المتقاطعة، يسرد لها شريط أيامها الماضية، يعرف كيف تمارس جميع طقوسها، ويفهم كيف تختار ألوانها. تدوخها الحيرة، هل سبق وأن التقت به في زمن آخر؟ تبحث في ملفات ذاكرتها عن أي شيءٍ يوحي أنها تعرفه من قبل أو عن أي صدفةٍ جمعتها به؛ لا شيء في دفاتر الذاكرة يؤكد أنها تعرف هذا الكائن البشري! يتملكّها الخوف وتشعر بالحياء إذ تيقنت أنه يستطيع النظر في كل ما يخالجها، وما كان يخالجها في زمن لم يكن هو فيه. أنه يخترق حيطان عقلها، ويتسلل من مسامات كل شيء؛ فيعرف كل شيء! وهي في هذيان من الذهول يلح عليها هاجس السؤال: كيف له أن يعرفها إلى حد أنه يعرف عنها أكثر مما تعرف هي عنها؟  يترجم لها اللغة اللاواعية إلى أبجدية واعية، يبدل ظلام اللامفهوم إلى ضوء المفهوم؛ يضيء عتمة المعاني التي طالما كانت تبحث لها عن تفسير!

استسلمت لقراءته، سافرت مع كلماته عنها، شعرت وكأنها تلتقي مع ذاتها لأول مرة. ولأول مرة تتعرف على نفسها. لم تكن تعلم أنها تملك هذا الكم الكبير من الأشياء، ولم تدري أن في داخلها كل هذه الحقول من الجمال. شعرت بأنها عاشت طوال الماضي غريبة عن نفسها، بعيدة كل البعد عن تلك الإنسانة التي اعتقدت أنها تعرفها أكثر من أي مخلوق آخر.

كم نجهل عن أنفسنا من أشياء! فيأتي من وهبته السماء مَلَكة الإحساس ذو الكعب العالي! يمشي بهدوء الناسك في محراب داخلنا، يتأمل في كل الزوايا، يتلو علينا تراتيل أفكارنا المبهمة عنا، هو يدرك ما لا ندركه نحن عنا، ويتلمس فينا ما نسينا أن نتلمسه بأنفسنا. نتوهم أن ما في داخلنا من مشاعر،وعواطف واضطرابات وأشياء أخرى؛ هي  محجوبة لا يراها الآخر.”غرباء نعيش في وطن الروح؛ وما أقساها من غربة، غربة الذات”

فجأة أولئك المرهفون، الذين يهطلون بمطر الإحساس يفضحون مشاعرنا؛ لنكتشف أننا كنا نعيش في صحراء قاحلة من أشجار معرفتنا بأنفسنا. لأننا طوال الوقت منشغلون في مراقبة العالم الخارجي، وما يدور حولنا من صخب. نهتم إلى حد المبالغة في تفاصيل العالم الظاهري ونهجر مدن داخلنا، نتركها بلا حراس ولا من اهتمام يعتني بأرض عواطفنا، لا نعرف قيمة ما نملك من ثروات في باطن أنفسنا. 

أصحاب الإحساس العالي هم مرآتنا من خلالهم نرى أنفسنا بوضوح. هم يملكون الحاسة ما بعد المئة حد الذهول. لأنهم أدركوا حقيقة أنفسهم واعتنوا بالمعرفة الروحية؛ صار من اليسير عليهم معرفة ما في داخل الآخرين. تعملوا في مدارس الإحساس كيف أنهم من خلال لغة الجسد يقرؤون لغة الأفكار وترجمة الأحاسيس؛ ومنهم من استطاع الولوج إلى أعماق الآخر من خلف حجاب. يشعر بما يدور من أفكار، من مجرد حروف أو عبارة. هم شديدوا الإحساس يشتمّون من كلماتنا عطر الحالة التي نكون فيها. نخاف منهم أحياناً لأننا نكون أمامهم عراة المشاعر ونخاف عليهم لفرط إحساسهم. لكن رغم ما يعانون من ألمٍ مما يحدث في واقع تعلوه سحابات وجع أكثر مما يطيقون؛ لكنهم يعيشون في نعيم العزف على سوناتا الإحساس!

إن جهلنا بحقيقة أنفسنا هو من شدة غرورنا بمعرفة أنفسنا! عندما ندرك بأننا عوالم مكشوفة النوافذ سوف نستحي بأن نبقي ما هو قبيح ومظلم في داخلنا. حين يصبح كل منا مرآة للآخر سوف تنتهي الضبابية وعدم الوضوح ونعيش في عالم مفتوح الرؤى والأفكار.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى