«س» رواية السؤال عن الذات

الجسرة الثقافية الالكترونية

*سارة ضاهر

المصدر: الحياة

 

قد تكون صورة المرأة في الفكر الشرقي بمثابة الخطاب الوحيد الذي أدرجته الكاتبة الأردنية كفى الزعبي في روايتها الأخيرة «س» (دار التكوين). وفيها تظهر البطلة «س» امرأة نمطية كتلك التي اعتدنا مطالعتها في الرواية العربية. وإن كانت هذه القضية معروفة، فإنّ المستجدات على الساحة العربية من عودة للأصوليّة والتشدّد، يدفع بقضية المرأة «المستضعفة» إلى الواجهة من جديد، وإلى تسطير بطولات في ساحات الروايات الصادرة حديثاً.

رواية «س» ليست بسيطة أو سطحية، أو تسعى إلى عرض نماذج لشخصيات واقعية، إنما يبدأ الـ «ميتا- سرد» عند الكاتبة من العنوان «س»، في نزعة إلى اكتشاف ما وراء العنوان، ومن بعده ما وراء السرد، أو ما وراء الرواية… العنوان «س» يمكن أن يكون الحرف الأول لكلمة «سؤال». فالأحداث في هذه الرواية المركبة تتشكّل من مجموعة أسئلة حول المرأة والرجل، الذكورة، البطريركيّة، النقصان، المجتمع، التخلّف… مجموعة أفكار مترابطة أسّست للنص وشكله. وساهمت هذه الأفكار ذاتها في توضيح ما يقول النص والطريقة التي يقولها بها، بكثير من التوتّر والسخرية حيناً، أو المفارقة في هذه العلاقة حيناً آخر.

 

إنسان مختلف

تسأل البطلة «س» نفسها أسئلة عن إنسان ليس غريباً عن هذا العالم، «إنسان ولد هنا ويعيش هنا، وينصاع لقوانين الـ «هنا» رغماً عنه. ماذا بخصــوص إنسان مختلــــف عـــن هذا العالم ولا ينتمي إليه فكرياً، لكنه ابن هذا العالم ولا يستطيع الخروج منه أو عليه؟».

يبدو الأمر مأسوياً حين يكتشف الإنسان في لحظة ما أنه لا ينتمي ليس فقط إلى الواقع الذي يعيش فيه، بل إلى ذاته أيضاً: حينما ينظر في المرآة، أو في زجاج المعارض التجارية، ويرى انعكاساً لصورة لا تعبر عنه ولا تمتّ له أو لـ «أناه» بصلة، فتتحوّل هنا موسيقى الحياة، فجأة ومن دون مقدمات، من موسيقى تناسب بهدوء على أنغام الكمان وصوت البيانو وحنين الناي… إلى قرع طبول، وهدير سكسفون… فيموج البحر، وتهيج العاصفة كأنها كانت محبوسة في قلب اللحظة الساكنة، وعلى حين غفلة تنفجر!

فما الذي ينفجر؟ أهي الحياة أم المرأة التي لا تقوى على أن تتحوّل من امرأةٍ منقبة إلى سافرة؟ من خاضعة راضية بنقصها إلى متمرّدة على مجتمعها؟ حتى في النص تحتار الكاتبة، فتدخل لتذكر مراحل كتابتها وأسرارها، كما يفعل المسرحي والسينمائي… وبذلك تكون الرواية آلت إلى جنسها من جديد. تقول الكاتبة/ البطلة: «أنا أيضاً كنت سألت نفسي: ماذا بخصوصي أنا؟ عند هذا السؤال أتوقف، ليس لأهميته أو عدم أهميته، بل لأن كل المشهد الذي رسمته عن «س» لا يعجبني! فكما رأيتم، أنا لم أجر أي تغيير في المشهد الواقعي الذي أعيشه أنا، والذي بطلته الحقيقية «أنا»، سوى أنني غيرت صيغة الـ «أنا» في السرد إلى صيغة الـ «هي». ومع ذلك ظلت «س» أنا. سأعترف أن ما كتبته لم يكن سوى محاولة فاشلة لإلصاق وجهي مكان فراغ وجه كيان آخر، ليس أنا».

يدخل المتخيّل في الرواية ويعيد الواقع خيالاً، بما فيه المكان، حيث تعيش البطلة حين فكرت أنها في هذا الحي الذي تحيا فيه، بل في هذه المدينة، إنما تعيش في بعدٍ آخر، بعدٍ ليس متخيّلاً، بعدٍ تبدو فيه كلّ الأوهام -أو ما تعتقد أنه أوهام- حقيقةً تمكن رؤيتها أو لمسها باليد.

 

غربة في الزمن

هنا تكمن الإشكالية، أو ربما المأساة. هي مأساة غربة لا أمَل في الخلاص منها ، لأنها غربة في الزمان، مفتوحة على درب وحيدة للرحيل: الدرب المؤدية إلى الموت ولا شيء غير الموت. وما ذلك إلا نتيجة عوامل كثيرة رسمـــت مســار تطور المجتمعات العربية، حيث وجدت المرأة العربية نفسها أسيرة مجتمع ينظر إليها بدونية، كأنها ناقصة عقل، منتقصاً بذلك من إنسانيتها ومن حقوقها.

وفي حين تمثّل البطلة «س» نموذج المرأة الشرقية المستضعفة والمكبّلة بقيود وهمية- حقيقيّة، فيتخذ كل من أبي إبراهيم صاحب الدكان، المؤذن محمود، والشيخ المشعوذ أبو علي، دور «الرجل» الذي يحاول استغلال المرأة لمصلحته أو يهدّدها بتشويه سمعتها في حال رفضت عرضه.

لذلك، لا يمكن أن تكون المرأة هي الضحية الوحيدة في رواية كفى الزعبي، بل إذا ما نظرنا إلى الرجل نظرة إنسانية، وجدنا أنه ضعيف وناقص، بل انه ضحيّة فكر ثقافي ديني اجتماعي سائد، جعلته يفكّر بأنه صاحب السلطة والحق في التحليل والتحريم، وربما جعلته عبداً لغريزته، من دون أن يتمكن من السيطرة على هذه الغريزة. لهذا كان يجب على المرأة ألا تظهر أمامه. وإن ظهرت فيجب عليها أن تكون «محتجبة» كي لا تستفز تلك الغرائز. وهو (الرجل) في وجهه الآخر يفقد سلطته الذكورية أمام السلطة السياسيّة، ويتحوّل من سيّد إلى عبد، مثلما حدث مع المحامي، وهو أحد شخصيات الرواية.

ونتيجة هذه الأفكار، التي حولتها صاحبة «سقف من طين» أحداثاً على مسرح روايتها، تردّدت البطلة «س» في العودة إلى حيّها، حيث الرجال متربصون بها وينتظرون عودتها، فتخيّلت نفسها مطرودة ومنبوذة، مهانة ومذلة، مشتومة ومضروبة. رأت نفسها تجلس على طرف الشارع معذبة، بعدما فقدت كل شيء، فقد اقتحموا شقتها وحطموا كل محتوياتها، مزقوا ملابسها وأحرقوا أثاث بيتها وكتبها.

ومن ثم تعود الكاتبة إلى النص، الذي لم تفارقه، بل تركته أياماً بعد هذه الحادثة. كانت تخشى العودة إليه، كأنها إن عادت فسترى فيه جثة «س» هامدة ملقاة على قارعة الطريق. ستراها تمثالاً مقطوع اليدين، مهشم الوجه، ينظر إلى الأسفل نظرة تهيج في النفس أسئلة حزينة تبعث على الرغبة في البكاء.

فكيــــف جاءت النهاية ؟ كيف بوسع المرأة/ البطلة أن تنجــــو من هذا النص، خصوصاً وأنــه يضعها أمام خيارين لا ثالــث لهما: إما خيار الرضوخ والاعتراف بالنقصان وإما خيار رفض هذا السجن والتمرد عليه والبحث عن وسائل تعينها على الخلاص منه، كي يكون بوسعها أن تنطلق بعقلها الكامل للمساهمة بالانشغال بالقضايا الإنسانية العامة؟ هذا هو «س». هذا هو «سؤال» كفى الزعبي.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى