شارلز بوكوفسكي في غوايات الحياة اليوميّة

الجسرة الثقافية الالكترونية

 

 

بندر عبد الحميد 

 

تتشابه القصة القصيرة والشعر والرواية في أعمال الكاتب الأميركي، من أصل ألماني، شارلز بوكوفسكي، بقدر ما تتشابه هذه الأعمال مع مسارات حياته اليومية المفتوحة على الأجواء الفوضوية الغاضبة العنيفة، التي اكتسحت أوروبا والولايات المتحدة في النصف الثاني من ستينات القرن العشرين، والتي اختلطت فيها نشاطات حركات الهيبيز والبوهيميين ومناهضي التفرقة العنصرية وحرب فيتنام، ثم اليسار الماوي الجديد، على ذمة هيربرت ماركوز. وقبل ذلك، عاش بوكوفسكي في لوس أنجليس طفولة بائسة، فكان والده يعاقبه بالضرب منذ عامه السادس وعلى مدى خمس سنوات، بمعدل مرتين في الأسبوع، بينما كان أبناء الجيران وزملاؤه في المدرسة يضحكون من لهجته المشبعة بلكنة ألمانية. ومع أن بوكوفسكي عمل بعد ذلك في مركز للبريد أكثر من عشر سنوات، إلا أن كل طموحاته وجهوده انصبّت على تحقيق حلمه بأن يصبح كاتباً بارزاً.

يتذكّر بوكوفسكي أنه تأثّر بروايات الكاتب الأميركي من أصل إيطالي جون فانتي، «الذي استمر تأثيره في كتاباتي مدى الحياة»، ويعترف بوكوفسكي بأن رواية فانتي «اسأل الغبار» التي نشرت عام 1937 فتنته، بعد أن استعارها من المكتبة العامة ليكمل قراءتها في المنزل، وهي رواية شبه سيرة ذاتية، عن العزلة والفقر والكبت العاطفي الذي ينضغط بالتراكم، لينفجر بعد ذلك على شكل انفلات حر مفتوح على فوضى الحياة اليومية، بما فيها من رغبات واكتشافات ومصادفات وتشابك في العلاقات العابرة أو المتواصلة، التي يتحكّم بها المزاج المتقلّب. وحينما صدرت الطبعة الثانية لرواية «اسأل الغبار» عام 1980، أي بعد عام من اللقاء الأول بين فانتي وبوكوفسكي، كتب بوكوفسكي مقدّمة عاطفية لها، تحمل إعجاب قارئ وليس انطباعات ناقد محترف.

ويبرز التشابه الغريب بين بوكوفسكي ( 1994 – 1920) وجون فانتي (1983 – 1909) في وجوه متعدّدة، فهما من جذور أوروبية، عاشا في لوس أنجليس سنوات من الحرمان والتشرّد، وكتبا قصصاً وروايات في اتجاه مشترك، وأسلوبين متقاربين، ولهما اهتمام خاص بالكتابة السينمائية، وعاش كلّ منهما أربعة وسبعين عاماً. وكان فانتي يكبر بوكوفسكي بأحد عشرعاماً، ولهما اهتمام خاص بالكتابة السينمائية، وكان لكل منهما «أنا آخر» في رواياته، تمنحه حرية إضافية في البوح، فكان فانتي يتلبّس شخصية «بانديتي»، بينما ظلّ بوكوفسكي يتخفى وراء شخصية «هنري شيناسكي» أو «هانك»، وكان يستبدل أسماء الشخصيات الواقعية بأسماء مستعارة. وأكثر من هذا، نجده أحياناً يخفي هوية الاسم المستعار وراء اسم مستعار آخر، وهذا ما يبدو أوضح في روايته الكبيرة «نساء» التي صدرت في منشورات الجمل في 535 صفحة، بترجمة الشاعر اللبناني شارل شهوان، الذي رسم غلافها مستوحياً شخصية بوكوفسكي وعالمه الغرائبي المنفلت، في حياته وفي حواراته الأقرب إلى لغة الشارع، أو قاع المدينة، واتسعت دائرة التجاذبات معه من خلال حضوره المتواصل في القراءات الشعرية وكتاباته الصحافية الساخنة.

صدرت رواية «نساء» عام 1978، وهي تتشكّل من مئة وأربعة مشاهد مختلفة، تشبه المشاهد السينمائية المتصلة – المنفصلة، ولكل مشهد ذروته الخاصة، والقاسم المشترك بين هذه المشاهد هو المؤلف، بوكوفسكي، أو شيناسكي، أو هانك، وتتغير الشخصيات الأخرى بين مشهد وآخر. وهناك شخصيات تتكرر بنسب مختلفة، وفق تدرجات الجاذبية المتبادلة، وتتغير موضوعات الحوارات أو تأخذ شكل الأسئلة والأجوبة أو الاعترافات، وترتبط جولات شيناسكي في شوارع المدينة بسيارته، الخنفسة الزرقاء، المميزة.

تحتلّ رواية «نساء» مركز الصدارة في الروايات الست التي أصدرها بوكوفسكي منذ سبعينات القرن العشرين، وهي على التوالي: مكتب البريد، المستخدَم، نساء، فخذ خنزير مع الشوفان، هوليوود، الصدمة.

وكتب بوكوفسكي ثلاثاً وثلاثين مجموعة شعرية، منذ العام 1960، صدر بعضها بعد وفاته، إلى جانب ثلاث عشرة مجموعة قصصية، وستة عشر سيناريو فيلم طويل وقصير، وثمانية كتب منوّعة تجمع كتاباته الصحافية ورسائله وحواراته. وتتصف عناوين بعض كتبه بالغرابة والإطالة، مثل: اعترافات رجل مجنون بما يكفي أن يعيش مع الوحوش – الحب كلب من الجحيم – الأيام تمضي بعيداً مثل الخيول الوحشية في المرتفعات – الناس يشبهون الزهور في النهاية – شمال لا جنوب له – منشآت وتصريحات ومعارض وعموم حكايات الجنون العادي… وفي سياق رؤيته للثقافة الأميركية، يقول بوكوفسكي: «أود القول إن ميكي ماوس كان له تأثير على عامة الأميركيين أكثر من شكسبير وميلتون ودانتي ورابليه وشوستاكوفيش ولينين وفان غوغ». ومع كل قصص الحب والشعر والروايات، ظل بوكوفسكي منسجماً مع نفسه، ومع مقولته: «إذا كانت لديك إمكانية للحب فأحبب نفسك أولاً.

المصدر: الحياة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى