شاعر بلا أسطورة

الجسرة الثقافية الالكترونية
عباس بيضون
عصام محفوظ الشاعر وعصام محفوظ الناقد وكاتب المقالة وعصام محفوظ المسرحي. كان الرجل بالتأكيد متعدداً لكن عصام محفوظ المسرحي والكاتب ظلم عصام محفوظ الشاعر، بحيث بدا أن المسرحي جاء من فشل الشاعر، أو جاء من الاحتجاج عليه، وأن المسرحي وكاتب المقالة كانا مستقبل عصام محفوظ، والشاعر لم يكن سوى ماضيه.
هل كان الأمر كذلك، هل كان عصام محفوظ شاعراً قبل أن ينضج وأن نضجه كان في المسرح. لا بدّ أن أمراً كهذا خامر الكثيرين. أن المسرحي الذي ورث الشاعر حل محله وبالكاد ترك له مكاناً، فكان أن أُنسي الشاعر وبقي فاصلة في حياة عصام محفوظ وفاصلة في تاريخ مجلة «شعر» التي كان عصام محفوظ أحد روادها.
لو عدنا إلى حركة شعر لوجدنا عصام محفوظ اسماً ثابتاً فيها. لم يكن من الزوار ولا من الملتحقين. كان من المؤسسين بالتأكيد ومن العضويين في الحركة ومن أوائلها ومقدميها.
مع ذلك لم يتعرّض كثيرون لعصام محفوظ الشاعر. لقد بدا انسحابه من الشعر شهادة على نفسه واعترافاً منه بعدم ترسخه في الشعر وهامشيته فيه. مسألة كهذه مرت على الجميع وكفتهم العودة إلى شعره، وأُقرّت من دون نظر أو بحث. لقد أغنى محفوظ الباحثين عن الدراسة والتحليل، إذ أخذوا بما اعتبروه اعترافه وما أقربه هو على نفسه فلم يعاودوا النظر في مؤلفاته ومجموعاته، ولم يحاولوا أن يتميزوا إسهام الرجل في الحركة الشعرية الأبرز، تاريخياً على الأقل، في حياتنا الأدبية.
لم يُقرَأ عصام محفوظ الشاعر ولم يتعرّض لمراجعة ولم يُدرس إسهامه في الحركة ومكانه منها. اكتفينا بأسماء قليلة: أدونيس، خليل حاوي، يوسف الخال، أنسي الحاج، شوقي أبي شقرا، بقي يوسف الخال المؤسس وأدونيس وأنسي وشوقي أبي شقرا شعراء ومنظّرين. أما مكان عصام محفوظ فبقي قلقاً، وبانتقاله إلى المسرح فقده أو كاد في تاريخ الحركة.
لو عدنا إلى عصام محفوظ في مجلة شعر لوجدناه متفرّداً فيها، لم يكن في الواجهة، ولم يكن في أساس الدعوة، كان بالتأكيد متجدداً وحامل نظرة مختلفة إلى الثقافة والشعر. لكن جاء إلى مجلة شعر من مطرح آخر، وربما من قراءة أخرى، ومن اتجاه غير غالب فيها. ولا نخطئ إذا اعتبرناه يسار حركة شعر.
اختلف خليل حاوي مع أركان شعر هو الذي شارك في أوائل أعدادها، اختلفوا على السياسة، لكننا لو نظرنا إلى حركة شعر، من وجهة ما اختطته في الشعر، لكان خليل حاوي أحد روادها. مجلة شعر استمدّت من مصدرين: السيريالية الغربية والفكر القومي. فكان شعر أنسي وشوقي أبي شقرا محاولة لتأسيس سيريالية عربية فيما كان أدونيس وخليل حاوي محاولة لتأسيس أسطورة قومية. بالطبع كان أدونيس بصورة خاصة في عمله على اللغة الشعرية، جعل منها أسطورته التي تستمدّ من الفكر والتراث والفلسفة. غير أن عصام محفوظ لم يكن هنا ولا هناك. لم يكن سيريالياً بحتاً ولم يهتم بالأسطورة القومية. كان لممارسة شعرية ولنظرة للشعر بقيتا في أطراف حركة شعر، وحين حان الوقت خرجتا منها.
عصام محفوظ كان يسار مجلة شعر لم تكن الأسطورة القومية تهمّه. ما كان يهمه هو العالم التفصيلي المعيش والمحسوس والمادي. ما كان يهمه هو الأمكنة والأشياء والطبيعة، كان يهمه التفاصيل والجزئيات والمشاهد والعالم الصغير والدقائق والأمور العارضة والعابرة والمؤقتة واللحظات المارة والزائلة. لم يكن شعر عصام محفوظ في أساس تيار مجلة شعر، كان إلى جانبها وفي هامشها. كان شعراً لا يعمل على اللغة ولا يقوم بتحطيم اللغة ولم تعنه الأسطورة اللغوية والأسطورة القومية. يمكننا هنا أن نتكلم عن احتفاء بالواقع والأشياء غير أن عصام محفوظ المثقف والعارف بالشعر لم يكن في تيار الواقعية الاشتراكية، كان يدرك أن الشعر ليس البيان السياسي ولا التحريض الحزبي ولا الحماسة النضالية. لقد مسَّه أراغون وأليار الفرنسيان ومثلهما عرف كيف يُغنّي بدون أسطورة.
المصدر: السفير