شعراء سوريون عمّموا الثورة عبر «فايسبوك»

الجسرة الثقافية الالكترونية
*رنا زيد
المصدر: الحياة
كان كل شيء في الحياة السورية اليومية، يشير إلى أن المدن منهكة ورمادية، قبيل تفتح الثورة، في عام ٢٠١١، ولم يكن في المجاز الشعري النصي السوري، أي دال على أن هناك شفاء من الواقع، أو حتى أي تخيل لتلك الجنة المشتهاة للفرد. لكنَّ خروج الناس من منظومة الفكر الشائع في البلاد، جعل الوهم، يقود إلى ملاذ مبهج، في صورة شعرية للجموع، تنادي بالكرامة. كانت هذه الصورة المستحيلة، في الأرياف، والمدن السورية البعيدة أو النائية، صورة مرفوضة، ولا ينص عليها التنظير السياسي أو الاجتماعي أو التربوي السوري، حتى في مفهوم، اصطياد اللحظات المناسبة للهمس، بتخيل صورة سقوط الطاغية.
إنَّ الثورة السورية، أهملت مع أفرادها الفقراء والبسطاء، موجبات قرع الجرس من قبل، طلب إذن الناشر؛ فوجد الناس على صفحات الإنترنت الأخبار والمشاهد والصور المخلصة والرافضة للعفن الذهني، ولكل الأشكال المقاومة السابقة اليسارية والأبوية. تلك المقاومة التي تحتم أن يكون الفرد، مثقفاً وسجيناً سابقاً، في حقبة البعث، ثم تحتم عليه كي يكون شاعراً متمرداً، يصيغ نصه وفق منهج سياسي. الشعر هو عيش الحياة، كما يراد.
رفض الشارع المساومة، وشكّل صورته الشعرية المطلقة، وفق عقلية غير منظمة، لكنها عقلية جمعية، تحتم أن يكون الجميع، فرداً؛ رسم هذا الفرد، غابة كبيرة، وقال: «إنَّ في الغابة، سجناً متوسط المساحة، يقبع فيه كل السوريين، والأسد ليس ملك الغابة، بل مستثمرها، وإن كل حديث عن الحرية، مشكوك بأمره، إن لم تكن حرية جماعية، لذا أسقطت الثورة السورية، المفهوم البعثي الأبوي في الثقافة، والمفهوم المضاد له أيضاً، لأن الضد يعتاش على استمرار وجود نفاق البعث، ثم أسقطت معها الشعراء الذين، يصنعون القصيدة، كما لو أنها قطعة بقلاوة، ليس عليها إلا ذباب، يجذبه الزيت المكرر، الذي أطعمونا إياه منذ كنا أطفالاً».
تزاحم الشعراء السوريون، في موقع التواصل الاجتماعي فايسبوك، وهم وإن أجادوا في طبع الواقع ونقله، فقد كان الشارع السوري، المقموع والملوّث بالإرهاب والدماء والذلّ، هو الملهم الوحيد. صار الفرد المتمرّد والمارد، يهمس في أذن الشاعر: «أنا شيطان الشعر، فاتبعني». هناك في الرصيف المقابل امرأة، تبدو أشبه بميتة، إنها طازجة في موتها، ومحافظة في حياتها الماضية؛ أصاب السلك المعدني الذي يمتد إليها، في محاولة لسحب جثتها، التواء لعين، كما هو التواء يدها على حافة الرصيف، المدهونة باللونين الأبيض والأسود، يزيد الالتواء اللون الأحمر. لا يستطيع الرجال إحضار الجثة لتدفن، ثم تسكن روحها، في سلام، في أرض الحق. تركض أختها، وأمامها القناصة، وتسحبها، كما لو أنها تؤنبها على التأخر في التنزه، ثم تقع معها، عند أقدام الرجال. تقول الميتة: «يا أختاه، تركت لك ساعة يد قديمة، وقميصاً طويلاً، ووشاحاً للرأس. يا أختاه، أنا قتلت، وقاتلي لن يموت. فقولي للرجال، أن يحضروا الطعام لأطفال المدينة، بدلاً من قتال الوحوش. المشهد التصويري السابق، ليس سوى مقطع فيديو، منشور على اليوتيوب، أين الشعراء؟ الشاعر مؤلف القصيدة، هو من عاشها، هو من أحصى الأرواح المحلقة، بعد قصف السكود.
إن القلب الأوحد، هو ملك لذاك الفرد، الذي يجمع في جسده، ملايين السوري، وإن تفتت الجسد، وانتثرت أشلاؤه في دول العالم. الألم هو ألم ذاتي لفرد واحد، لكنه يختزل الجميع. بل إن ما كتب، حتى الآن هو امتداد لهذا الفهم، من الشعراء السوريين المعاصرين. قال المحارب إنه لم يكن ليدرك، أو لينتبه، إلى أن سماء حلب تلتمع فيها النجوم. هكذا، إنها المرة الأولى التي يتيقن فيها، بأن صورته مع سلاحه، شكل مرعب لحقيقة ما يجري في سورية، لقد فقد إنسانيته، ولن يعيدها أي شيء، لا النصوص الطويلة، ولا مرثيات الشهداء. أدرك المحارب وجود النجوم، عندما تذكر ما غاب عنه، حينما غادر المنزل في المرة الأخيرة، ليصل إلى الخط الأول، في الجبهة مع النظام السوري. كانت ابنته الصغيرة، تشد معطفه الشاحب، وهو يزيح يدها، لقد قالت له: أبي، أبي، أنا أحبك. عادت سورية إلى هيئتها الشعرية الآسرة، بعد الثورة.
إنها سورية التي طمر وجهها التراب والرماد والانكسار، وخذلها الآخر، وانتصر لها من هو عادل وشاعر وبريء من التشوهات الأخلاقية. الشعر هو العدل. وإن كان بين سورية والحرية، زمن يطول؛ فإن العدل لن يغيب، ولن يترك أحداً بلا مقابل لفعله. وإن فشلت الثورة السياسية، فإن الثورة الأهم التي قامت هي ثورة الأخلاق، ثورة الشعر المعمم على الشعب. لن يترك في هذه الغابة أحد من دون حساب، على الأقل بهذا وعد بعض العقلاء. وإن أمكن للمتنكرين العبث، بالنصوص التي تصدر عن الحال السورية، لكن اللسان الجمعي، يقول: إن الشعراء الذين شاهدوا الصورة النقية للثورة، لن يسكتوا بعد الآن، على من بقي من نظام البعث، في صفوف الثورة، بداعي الثقافة والشعر، على النص الحقيقي أن يظهر، فالقصيدة الوحيدة المكتوبة اليوم، هي قصيدة، من دماء من نحب: صغاراً وشيوخاً وشباباً… تركوا كل شيء، وراءهم، من أجل سورية.