شعرية التشكيل الضوئي في «أنامل الضوء» للشاعر رشيد المومني

الجسرة الثقافية الالكترونية

*محمد العناز

المصدر / القدس العربي

يجوب الشاعر المغربي رشيد المومني تضاريس عمله الإبداعي الجديد مزودا برؤية جمالية، جعلت من ديوان «بأنامل الضوء» تجربة شعرية وفنية، تستدعي من المتلقي قراءة دلالة هذا التشكيل الجمالي لعمل يتسم بالجدة على مستوى الحجم والشكل والإخراج الكاليغرافي، فضلا عن قوته الدلالية النابعة من طبيعة المرجعية التي استند إليها الشاعر رشيد المومني في تشكل عمله الفني الشعري.
واختيار عمل من الحجم الكبير (21/295) يستند إلى رؤية جمالية أراد الشاعر تأكيدها عبر تساوق مدهش بين الكلمة الشعرية في بعدها الانزياحي والاستعاري، وبين التشكيل الضوئي الذي راهن على الحركات، والنتوءات والتموجات والفراغ والامتلاء والمساحة وطبيعة الحركة داخل جسد اللوحة؛ وهذا ما يعلل الخطوة التي جعلت الشاعر لا يضع ترقيما لصفحات هذا العمل؛ لأنها في الأصل لوحات جمالية، وليست صفحات ورق متصل أو منفصل في مساحة الديوان الشعري. إننا إذن، بصدد رؤية مشهدية لرواق مفتوح على التأمل، تثيره لوحات تتميز بحركية كبيرة يخلقها صراع الأبيض والأسود كمرتكزات لتشكيل اللوحات الفنية لـ»أنامل الضوء»، وارتباطا بالإبدال الدلالي الذي تخلقه الصور الشعرية التي استندت إلى المرجعية الصوفية، والتي تبرز من خلال التوظيف الرمزي للغة الصوفية بكل عنفوانها وطاقتها الدلالية، ومحاولة الفنان الشاعر البحث عن دروب الحقيقة، وهو الذي اختار طوعا التزود بما يكفي من الضوء للسير في دروب الظلمة بحثا عن الحقيقة الثاوية في الباطن، لذلك يعمل الشاعر على تجاوز الظاهر الخادع ليرتبط بالفضاء الكوني، في بعده الإنساني. يقول الشاعر رشيد المومني في» بأنامل الضوء»:
«إلى أي ليل
يقود
خطاي
هذا الضوء
إلى أي منفى؟»
لا يمكن قراءة هذا الشاهد الشعري بمعزل عن الفضاء الجمالي للوحة؛ لأن تناسق هذه المكونات هو ما يسمح بخلق الدلالة الجديدة لـ»بأنامل الضوء» في اتساق بين المكون المعرفي، والمكون الجمالي، وبين الانزياحات التشكيلية، والانزياحات اللغوية. ومن ثمة فـ»بأنامل الضوء» هو تجلي صوت الشاعر، بل هو تجلي الكينونة وروحها الشفيفة الساطعة مثل النور، الذي يمتد نحو المتلقي بفضل هذا «الفيض» الجمالي. إن التشكيل مكون أساس في هذا العمل، بما يحمله من دلالات شكلية وقوة في الدلالة، وسحر اللغة الرشيقة الراقصة مثل الأمواج في بحر يسم بصراع المد والجزر (البياض والسواد). فالقصيدة في كل ثنايا هذا العمل تقوم على نسج علاقات جديدة تتجاوز المألوف في المتن الشعري المغربي، وإذا كان هذا المتن قد عرف تجارب متعددة لتساوق الحرف الشعري بجماليات الخط المغربي على نحو ما نجد في تجربة الشاعر المغربي أحمد بلبداوي، فإن ما يجعل العمل الجمالي» بأنامل الضوء» يتسم بالجدة هو رهانه على التشكيل بدل الملائمة بين مكونين؛ فالشاعر رشيد المومني، هو نفسه الفنان الذي يرسم تفاصيل متخيل خصب يعبر عنه بهذا التضاد بين الأبيض والأسود، وبين القوة الدلالية التي تولدها الصور الشعرية، وهي تستند إلى لغة ترميزية مغرقة في التجريد، وفي البحث عن الجوهر في طرق لا تؤدي إلا إلى الكشف عن الكينونة في تجلياتها الإنسانية، لذلك فالشاعر وهو يغوض في هذه التجربة يكلم نفسه، ويخوض حربا ضدها بحثا عما يستطيع قلبه أن يراه؛ لأنه دليله الصادق نحو النور، نور المعنى. ولن تكون وسيلته نحو ذلك سوى لغة الإشارة بما تحمله من قوة الاختلاف والانفتاح على اللانهائي، بدل الصور المغلقة المحددة دلاليا بشكل مسبق.
«أعماني حجر الماء فلم أعد
أميز بين حجر الحكمة
وبين حجر الصوان»
الشاعر العارف متسلح برؤية عميقة للذات وللكون؛ لأنه يرى بقلبه ما يعجز العقل عن إدراكه، لغته تهتك الحجاب، فيدرك الأشياء الخفية بحواسه. لذلك فهو راسخ في المعرفة والحب. قلبه هو محل الكشف، وأداة المعرفة الحقة؛ لأنها رصد لتجلي الذات والعالم على حد سواء.
ومن ثم فاللوحات المكونة لعوالم «بأنامل الضوء» تمتلك القوة على النفوذ إلى أنوار الفهم. طالما أنها عوالم ترفض النسق العقلاني تشكيليا وشعريا، وتراهن على الجماليات المرتبطة بالبصيرة الكاشفة، لذلك فطلب دليل الفهم سيبدو مضللا عن طلب خارج سياقات «بأنامل الضوء». ذاك أن الدليل إلى الفهم يرتبط بالمعنى المشكل بحرفية كبيرة في اتساق مدهش بين الفضاء الشعري والفضاء التشكيلي، والكشف عن منبع الجمال فيه يتطلب من المتلقي مسالك مخصصة، ترتبط بفهم السياقات اللغوية الذوقية بطاقتها الرمزية والإشارية، وبسمة الاختلاف بدل الوحدة التي راهن رشيد المومني على تشييدها في عمله؛ لأنه يضع القصيدة في فضاء غير معهود، وهو فضاء يتسم بالحركة وعدم الاستقرار، فالقصيدة في فضاء اللوحة غير مستقرة بل هي متحركة على نحو مدهش، وهو ما يكشف سر تموضعها في كل الجهات، في دلالة من قبل الشاعر على هذه الحركية البصرية، وعدم الاستقرار، وكأنها ترحال من المحدود نحو اللامحدود. وقد استطاعت اللغة بكثافتها الدلالية أن تعبر عن هذه الحركية للمعنى الشعري في تشكيله الدلالي وقوته الإيقاعية، سواء في تكرار حروف الروي أم في تشاكل الصوامت والصوائت في أكثر من شاهد شعري، فضلا عن الاشتغال الدقيق على جماليات التعارض والتضاد المعبرة عن الحس والمشاهدة، وبالتالي فإن تشييد فهم عميق لعنوان هذا العمل لن يتأتى فقط ارتباطا بالعتبة أو باللوحة المكونة لغلاف «بأنامل الضوء»، بل بمساراته بشكل عام، وتتبع تفاصيل هذه المسارات هي الكفيلة بتفكيك استراتيجية الالتباس النابعة من التخييل الشعري والجمالي لهذا الأثر الفني الشعري.
« خد ذات من موضع التيه فيها خشية أن تضييع فالدروب كثيرة والعلامات لا عقل لها»
النفاذ إلى الأعماق يتطلب ذوقا لرصد الحضور النوراني في فضاءات «بأنامل الضوء»، «والذوق أول مبادئ التجلِّي» على حد تعبير ابن عربي في الفتوحات المكية، والتجلي هو ظهور، و»بأنامل الضوء» تتسم بقدرة على الرؤيا، فكل من اللغة بطاقتها الإشارية والرمزية وحركات الضوء في صراعه المرير مع السواد يساهم في خلق العالم النوراني الذي ينمحي فيه الحجاب، لذلك فلوحات هذا العمل تتسم بتشاكل فاتن، وانسجام متميز يبدد على نحو جمالي التشويش الذي يخلقه العنوان كعتبة أساس للدخول إلى عوالم هذا العمل الفني والجمالي الذي يكشف رؤيا الذات الشاعرة المتسمة بالزهد والوله، ولعل هذا هو ما يبدد غموض كثير من الاشراقات الصوفية التي تكون لوحات هذا العمل بما يتضمنه من قضايا فلسفية تحتاج إلى مؤول يدرك طبيعة السياق النوعي لعمل راهن فيه صاحبه على مغايرة إبداعية مثقلة بحمولة فكرية متعددة الروافد، وبرؤية عميقة للذات وللوجود، وباشتغال دقيق على تكون الخلق الشعري ليكشف الخفي والغابن وليجعل الذات في مكنوناتها بادية للعيان، ولن تكون وسيلتها في ذلك اللغة فقط، بل التشكيل بانزياحات اللون والحركة والامتداد، والقدرة على التحرك في كل زوايا اللوحة بعيدا على سلطة الحرف. كما أن المعاني المشكلة في هذا العمل ليست تطريزا للقصيدة، بل هي مدخل للمعنى الكلي للعمل بشكل عام.
إن لوحات هذا العمل تشبه جبل قاف في منطق الطير، بمعنى أنها تتضمن إشارات تحتاج إلى مؤول مدرك لطبيعة الخطاب ولآفاقه التأويلية، ارتباطا باللغة المخادعة في شكلها اللفظي، والمحيرة في بنيتها التركيبية؛ لأن الشاعر يراهن على توليفات لغوية ذات نفحة صوفية مربكة لارتباطها الوثيق بالكثافة الدلالية، وبتجاور الحالة الوجدانية، والحالة الإدراكية، وبالتالي فإن اللغة في هذا العمل ليست واصفة فقط، بل هي مؤسسة لعالم جديد هو عالم الكشف والمحو في الوقت نفسه: كشف الذات والعالم، ومحو التجليات المظللة، تماما كما يحدث في «السيمرغ» في جبل قاف.
إن تفاصيل هذا العمل ترتبط ارتباطا وثيقا بالحس الصوفي العميق، والمقولات والأذكار الصوفية والآثار المتواترة، بما يساهم في تعميق الرؤية الفنية والجمالية لـ»بأنامل الضوء» للمبدع رشيد المومني الذي ينسلخ في كل لوحة من نفسه ليتبدى في شكل جديد وظهور جديد، والنور يساهم في رصد تفاصيل هذا الظهور. وهو يقترب من الصوفي أبو زيد البسطامي في قوله» انسلخت من نفسي كما تنسلخ الحية من جلدها، ثم نظرت إلى نفسي، فاذا أنا هو».
«بأنامل الضوء» تعميق لرؤية الشاعر رشيد المومني للذات والوجود ومساهمة فاعلة في تطوير المنجز الشعري المغربي ارتباطا بمشروع متعدد الرؤى.
إن الزمن الشعري الذي جعل الشاعر رشيد المومني يقدم أعماله الشعرية «حينما يورق الجسد، النزيف، مشتعلا أتقدم نحو النهر، ليالي الروح الزرقاء، مهود السلالة، هكذا سدى، ثلج مريب على جبهة الحطاب…» مرتبط بالزمن الإبداعي للذات الشاعرة، وهو زمن متصل لكنه يكشف في كل عمل قدرا كبيرا من الحضور الجمالي، ومكابدات، وقدرة على التفاعل مع مختلف الصور الشعرية التي تخلقها التشكيلات الجمالية لمتونه الشعرية. وكأنه يتدرج في البرهنة على جدة مشروعه الشعري الذي راهن في» بأنامل الضوء» على طرح الاتصال بين التشكيل والشعر، في ما يشبه اختيارا طوعيا للإقامة في أعالي الجبال بحثا عن الاكتمال، ونشدان الاكتمال لا يتأتى من دون توظيف الحرف، بطاقته الرمزية والجمالية، واستكناه بعده الصوفي؛ لأنه يسمح بالانتقال من ظاهر الأشياء إلى باطنها والحرف في أشكاله المختلفة هو تجل للشطحات الصوفية رغبة في الاقتراب من الجوهر أي «القلب» الذي قال فيه الغزالي:»أعلم أن عجائب القلب خارجة عن مدركات الحواس». وهذا ما يسمح لنا بالقول إن «بأنامل الضوء تخفي أكثر مما تظهر، ولأنها كذلك فهي تحتاج إلى قراءات متعددة للاقتراب من هذا المجهود الجمالي الذي يراهن على شعرية الضوء بوصفها ترسيخا لحضور الذات في هذا الوجود، وإعلانا عن رؤيا شعرية مخصوصة على مستوى البناء وعلى مستوى الدلالة، فضلا عن القوة الإيقاعية لكل القصائد التي تتحول إلى مقطوعات موسيقية تكشف الحيرة بدل اليقين، والتوتر بدل الاستقرار والحضور بدل المحو، والتحول بدل الاستقرار.
إن «بأنامل الضوء» هي لوحات متداخلة ومتابعة في الوقت نفسه، ففي بداية هذا العمل تطل علينا لوحة تكشف تساوق الأسود والأبيض في حركية لا تنتهي، كأنها صراع علني، وثورة يشنها البياض بكل قوته الضوئية على السواد أو على ما تبقى منه.
«بأنامل الضوء» يكشف اشتغالا واعيا بالمساحة، ليس من خلال حجم العمل «اللوحات» فقط بل في بروز الحرف في أماكن مختلفة من فضاء اللوحة من دون أن يستقر في مكان بعينه لتغدو القصائد في حركية بصرية مستمرة وليس في استقرار كاليغرافي تفرضه أشكال الطباعة وحجم الصفحة. يقول الشاعر:
« فتحت كتاب
الضوء إلى آخر
صفحة فيه حتى ارتج
سورة البرج وانشق
ثوب الدكنة
إلى ليلتين»
الانطلاق من قوله تعإلى في سورة الفتح» إنا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُّبِينًا لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُّسْتَقِيمًا وَيَنصُرَكَ اللَّهُ نَصْرًا عَزِيزًا» لا يؤشر على الاشتغال البلاغي الدقيق من خلال استثمار الاقتباس، والتضمين في هذا العمل، ولكنه يؤشر على قدرة المبدع رشيد المومني على اكتساب شرعية فعل «فتح»، ليخبرنا أنه بصدد فتح جمالي ومبارك في الوقت نفسه؛ وهذا الفتح يمتد نحو الاستعارات القوية التي يحفل بها هذا العمل في كل تفاصيله، «هل يمكن للماء أن يتماسك» واللوحات تكشف الحيرة التي تنتاب المبدع وهو يبحر، من دون أشرعة في بحر لا يقود إلا نحو الأعماق» بماذا سأوصي» بما يؤشر على استمرار الحركة من الأعلى نحو الأسفل، وإعادة تشكيل الأضداد، وكأنها ولادة جديدة .
اللوحات في «بأنامل الضوء» مثل الموجة، مثل سطح الماء في بحر عميق، ووحدها اللغة تكشف مقامات الروح، ومدارجها وعطشها، طالما أن الماء على حد تعبير الشاعر محبوس في عمق المرايا الحجرية. فكيف استطاع الشاعر أن يخرج من أناه اعتمادا على أنامل الضوء؟

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى