شوقي عبد الأمير: لا أجوبة ولا نهايات في الشعر

الجسرة الثقافية الالكترونية-السفير

*زهرة مروة

في ديوانه الأخير “أنا والعكس صحيح” الصادر عن دار الغاوون، يقدم الشاعر العراقي شوقي عبد الأمير صورا شخصية تعبّر عن الأنا الفردية، كما تعبر عن الأنا الجماعية العراقية. هذا الكتاب يعكس أيضا علاقة الشاعر بوطنه الذي تركه منذ أربعة عقود. عن الديوان الأخير وعن علاقته بوطنه وعمله كديبلوماسي وكناشط سياسي وثقافي، كان هذا الحوار…

أصدرت مؤخرا في بيروت ديواناً جديداً “أنا والعكس صحيح” عن دار الغاوون، العنوان لافت وغريب، ماذا تقصد به؟

أنا والعكس صحيح بالنسبة لي هو بورتريه شخصي. أعتقد أن الحقيقة لا تظهر إلا عبر التناقض. “والضد يظهر حسنه الضد”. اخترت هذا العنوان، لأني أقدم صوراً شخصية متناقضة لي في الديوان. فهناك قصيدة عنوانها “الأنا” تتحدث عن الأنا الشخصية، وهناك قصيدة ثانية اسمها “موت النشيد الرافديني”، وهي أيضا قراءة في الأنا الجمعية العراقية، وقصيدة عنوانها “الغزاة” وهي قراءة في الأنا الجمعية العربية اليوم. وكثيرة هي القصائد التي لا أتطرق فيها الى أغوار الذات إلا عبر ارتطامها بالآخر وبالأخص بالمكان الذي هو مرآة للذات الحقيقية.

كونك تحدثت عن المكان، أنت نشرت ديواناً، بـ400 صفحة، أسميته “ديوان المكان” ما هذه العلاقة الكثيفة الأسرار بالمكان؟

فعلا ان المكان هو ملهم حقيقي بالنسبة لي، لا أستطيع على سبيل المثال، أن أصور مكانا أدخل اليه لأول مرة، إلا عبر كل أشباح ورموز الماضي فيه، وعلاقتها بالحاضر وعلاقته بي. ولهذا لا يبدو لي المكان أبدا كصفحة بيضاء، المكان هو شاشة تعرض أمامي عليها صورا وأحداثا ورموزا وأشباحا أقوم أنا بخلطها داخل اللغة واعادة كتابتها، لذلك المكان بالنسبة لي هو معين لا ينضب.

المكان له سحنة وبصمات سيكولوجية وظلال داكنة وروح وأصداء لا ترى ولا تسمع إلا لمن يبحث فيها، ويركز عليها. هناك أمكنة تبعث على الفرح وأخرى على الكآبة ولا تعرف لماذا.

 

كيف توفق بين عملك كشاعر وكديبلوماسي كونك شغلت مناصب ديبلوماسية عديدة، كمستشار في بيروت لمنظمة اليونيسكو، وملحق إعلامي لسفارة اليمن، ومندوب دائم للعراق في اليونيسكو؟

 

هناك علاقة وثيقة بين الشعر والديبلوماسية. العلاقة هي اللغة. الديبلوماسي يمكنه أن يشعل حربا أو يبردها عبر اللغة. فهو ينقل صورة شعب وسياسة حكومة عبر اللغة، ويقيم جسرا بين شعبين عبر اللغة. وأحيانا المفردة عنده تكون من الخطورة بمكان، أن تكون لها ارتدادات على مستوى شعبين، وحكومتين، أو العكس اذا أحسن استعمالها.

الشاعر يتجلى داخل اللغة، وجوده وحقيقته تمران عبر اللغة. فهذه العلاقة بين الديبلوماسي والشاعر هي نقطة التقاء عميقة واعية ولاواعية عند الاثنين. والدليل هناك شعراء كبار كانوا ديبلوماسيين، سان جون برس مثلا، اسمه الأصلي Alexis Léger، كان أمين عام وزارة الخارجية الفرنسية عام 1939، عندما بدأت الحرب العالمية الثانية بدخول ألمانيا الى بولونيا. وكان السبب المباشر لاحتلال ألمانيا لبولونيا هو توقيع الفرنسيين لما عرف في ما بعد بـ”معاهدة الخجل” التي وافقت فيها فرنسا لألمانيا على دخول بولونيا، والذي وقّع هذه المعاهدة باسم فرنسا هو الشاعر سان جون برس،

alexis leger نفسه، ومن هنا يأتي كره شارل ديغول لسان جون برس. وعندما فاز سان جان برس بجائزة نوبل، وجاء فرنسيون الى ديغول يهنئونه بفوز شاعر فرنسي كبير بهذه الجائزة، قال لهم من هو سان جون برس، قالوا هو شاعر فرنسي ومترجم الى لغات كثيرة في العالم، فأجابهم سأقرأه عندما يترجم الى الفرنسية.

لا ننسى مثالاً مهماً أيضا هو جورج سفريس الذي حصل على جائزة نوبل، وكان سفير اليونان في بغداد وفي بيروت، وعاش حياته كلها كسفير. وبابلو نيرودا الذي كان قنصل شيلي في اسبانيا.

عند العرب عندنا مثلان مهمان عن شعراء كانوا ديبلوماسيين هما عمر أبو ريشة ونزار قباني.

قصيدة النثر

لنعد الى الشعر، ما رأيك بقصيدة النثر العربية التي تكتب في هذه الآونة؟

لا أعتقد أن قصيدة النثر الآن هي تطور للشعر العمودي أو للتفعيلة. أعتقد أنه انتهت حلقة تطور الشعر الكلاسيكي في شعر التفعيلة وبدأت مرحلة جديدة هي قصيدة النثر الحالية.

قصيدة النثر هي حلقة أولى في مرجعيتها ليس لها علاقة بقصيدة التفعيلة ولا بالشعر العمودي. أي ليس لها ماضٍ في الشعر العربي. مرجعية قصيدة النثر اليوم هي مرجعية عالمية، هي مرتبطة باليوت ورامبو وبرتون أكثر مما هي مرتبطة بالسياب وبأحمد شوقي. مرجعيتها أوروبية كاملة لذلك هي منطلق جديد مرتبط بدورة الشعر العالمي.

ومستوى هذه القصيدة الآن هو متفاوت جدا. فأنت أحيانا تقع على قصائد رائعة بمستوى متفوق وتقع على قصائد لا تستحق حتى ثمن الورقة التي كتبت عليها.

والمشكلة أنه بسبب تقنيات الاتصال والانترنيت، هناك سهولة في النشر والكتابة والتوزيع، لدرجة صارت الشاشة الشعرية مضببة، وحتى تجدين فيها النص الحقيقي عليك أن تملئي سلال المهملات بالكثير الكثير مما تقرئين. وهناك دور نشر صارت معتادة على نشر الشعر الرديء هذا مقابل أثمان، وهنا دخل العامل التسويقي الرخيص ليعقّد المشهد الشعري أكثر فأكثر.

تتحدث هنا عن قصيدة النثر الشبابية؟

ليس بالضرورة. قصائد الشباب هي ذات مستويات متفاوتة. أحيانا نقرأ قصيدة جيدة لشاب، لكنه فجأة ينتكس. الشباب شعريا اليوم مطالبون بالتواصل، وبإثبات العطاء باستمرار على مستوى عال، وبالصمود عاليا. هناك تجارب شبابية بين حين وآخر تفاجئ، لكن فجأة إما تهبط أو تختفي.

مشكلة الشعر العربي الحديث كما قلت قبل قليل، أن مرجعيته عالمية، وهو مطالب بثقافة عالمية، وهذه تقل عند كثيرين ممن يكتبون الشعر، فهم إما يجهلون اللغات، أو لا يقرأون.

قراءة الشعر لا تثقف الشاعر، الشاعر بحاجة لأن يقرأ بأقل نسبة من قراءاته من دواوين الشعر، لسببين، الأول، لكي يحافظ على خصوصيته الشعرية، وأن يمنعها من أن تُخترق من عوالم شعرية أخرى، ثانيا لكي لا ينغلق في قوقعته الشعرية، لأن عالم المعرفة أوسع وأكبر وأغنى بالأشكال والمضامين.

أنت الآن تقرئين سان جون برس. أنا والشاعر أدونيس زرنا بيت سان جون برس في باريس فوجدنا أن أقل ما في مكتبته هي دواوين الشعر. في مكتبته كتب تاريخية، فلسفية، وكتب عن البحار وعن العالم وعن الرحلات.

 

هناك معارك طويلة بين الشعر والنثر الآن، القصيدة أصبحت قصيدة نثرية والرواية تتضمن شعرا، أين الفارق الأساسي بين الشعر والنثر؟

. لقد اعتدنا الفصل بين الشعر والنثر انطلاقا من سيمات شكلية تتعلق بالوزن والتفعيلة والقافية وطريقة كتابة السطور اذا كانت كاملة أو مجتزأة الخ.

لكن الفرق الحقيقي بين الشعر والنثر هو ببساطة الفرق بين حركتين، الأولى عمودية والثانية أفقية، وذلك من خلال علاقة الكتابة بالزمن أو بالديمومة… وهناك فرق هام بينهما … الشعر ينحو داخل الزمن والنثر داخل الديمومة، ولكي نفهم الفرق بين الديمومة والزمن يجب أن نعود الى برغسون ومفهوم الزمن الكلي المتّحد والى باشلار لكي نفهم معنى الديمومة باعتبارها نقطة بداية داخل الزمن تتواصل داخل حدثيّة الحركة في الأخير… أي انها مقطع أفقي داخل كلية الزمن العمودية.

وبهذا المعنى، ان الشعر يقف ضد حركة الديمومة، يعترضها، يستجوبها باتجاه عمودي للزمن ماضيا وحاضرا آتيا… ومن هنا صعوبة القصيدة لأنها استجواب، سؤال مطلق. أما النثر فإنه يتزاوج مع حركة الديمومة التي تمضي أفقيا في مواكبة للأحداث التعاقبة المتوالدة مع بعضها البعض.

يقول باشلار ان قراءة رواية في قطار أكثر ملاءمة من قراءة قصيدة في قطار… ذلك ان قطار الأحداث السردية يتماشى مع قطار الديمومة… كما أن الرواية لها بداية ونهاية كالرحلة… أما القصيدة فلا نهاية لها وهي نقطة في مدار لا يتوقف وتبقى سؤالا… لا أجوبة ولا نهايات في الشعر… هنا تكمن الفوارق بين الشعر والنثر.

أين موقع الشعر في الثورة الرقمية وثورة الاتصالات اليوم؟

كل منا يحمل في يده أو في جيبه عقلا إلكترونيا. وكل يوم تتصاعد أهمية هذا العقل الآلي ويحتل مكانة كبيرة في حياتنا اليومية وذلك لأنه عقل أكثر “دقة” و”أمانا” وأكثر من كل ذلك “ثباتا” فهو لا يخضع لتأثيرات نفسية داخلية تهز وتغير معطياته كما يحصل في العقل الانساني … أليس كذلك؟

كل هذا يقود وقد قاد الى ما أسميه “استقالة العقل البشري” لمصلحة العقل الآلي… أي ان المخلوق ينتصر على خالقه. ومن هنا قد تحول الانسان من كائن بيولوجي الى كائن “تكنوبيولوجي” هل فكرنا بهذا؟

كلنا اليوم وفي هذه الثورة الرقمية نجد أن العقل نفسه يستقيل أو يتراجع الى “ما” أو “من” هو أكثر فاعلية وصدقية وثباتا منه باعترافه هو.

والدليل على ذلك ان المؤسسات الكبرى في العالم موجودة تحت إشراف وسيطرة العقول الالكتروينة وكذلك الطائرات والقطارات السريعة مؤمنة ببرامج عقول آلية. ومن هنا صارت الطائرات أكثر أمانا والمصارف أكثر دقة والعمليات الجراحية الطبية أكثر فاعلية؟ كيف ستكتب الشعر أيها العقل الجديد؟ وما هو شاعرك المفضل؟

هذه أسئلة شعرية بامتياز. أسئلة تنحو في خضمّ شعري فلسفي لأننا في كنف متاه كوني لا نعرف الى أين. وهو الطقس الشعري المؤسس لأعظم النصوص. هل فكر شعرنا بذلك؟

الوطن والمهجر

 

تركت وطنك العراق عام 1978 وعشت أربعة عقود خارج العراق، ما الملمح الأهم في هذه العقود الأربعة، وكيف ترك المهجر أثرا على شعرك؟

الشيء الأول الذي صدمني عندما ابتعدت عن العراق، هو اكتشافي أنني كلما ابتعدت عن العائلة الصغيرة أو الكبيرة، كلما أحسست أن قيمي الجمالية والانسانية والفكرية تتغير لأن مرجعيتها لا تعود عائلية بيتية وطنية، وتصبح إنسانية كونية شمولية. وكل الحقائق والقيم والمرجعيات حينما ترتطم بمرآة أكبر وأوسع تبدو على حجمها الحقيقي. وكلما اقتربت من مرايا ضيقة كلما تشوّه حجمها.

لذلك أعتقد أن يوم مغادرتي للعراق هو يوم جديد بكل معنى الكلمة. ولدت من جديد. واكتشفت قوة وضعف اللغة العربية بعدما بدأت أكتب بالفرنسية.

اكتشفت على سبيل المثال أن اللغة العربية لغة فعلية والفعل في هذه اللغة له موقع ومكانة في التعبير أوسع بكثير مما هو عليه بالفرنسية والانكليزية.

والتعبير بواسطة الفعل هو تعبير مركز لأنه كلمة واحدة، ويحتوي على زمن وهذا ما لا يتوافر في المفردات الاصطلاحية كما في الفرنسية. كما أن منطق اللغات يختلف، نحن في اللغة العربية لا ننتبه الى الحشو، والاطناب هو بلاغة في اللغة العربية، بينما هو حشو وعجز في اللغات الأوروبية. نقول مثلا باللغة العربية ولا نشعر أن في الكلام حشواً: “سالت دموعي على خدي”. (وهنا “على خدي” حشو، لأنه أين تسيل الدموع؟). هذه أشياء اكتشفتها بعدما بدأت أكتب باللغة الفرنسية. لذلك عدت أكتب باللغة العربية بطريقة مختلفة مشذبة وموجزة. أصبحت لغتي مختزلة مشدودة، بعد ارتطامها باللغة الفرنسية. قبلها كنت أكتب شعرا عموديا وتفعيلة.

نشرت شعراً منثوراً في ديوان كامل كان بالنسبة لي فعلا شعريا ضد شاعرية وغنائية اللغة العربية عنوانه “أبابيل”. مثلا:

“كتب فتعلم البقاء.

قرأ فتعلم الموت”.

أو

“تمتلئ البئر بالأسرار

عندما تنشف”. من “أبابيل”.

الشعر العربي الحديث يتيم النقد، ليس هناك نقد حقيقي في الشعر الحديث. هناك مجاملات أو مساجلات أو “تبويس لحى” الى آخره، أو عدوانيات مجانية ولم أقرأ نقدا شعريا حقيقيا.

اذاً الشعر العربي الحديث برأيك هو يتيم النقد، لكن بالنسبة لتجربتك الشعرية، هل تعتبر أنك أنصفت نقديا؟

كلا، لا أعتقد أن هناك أحداً من النقاد استطاع أن يقرأ جيلنا الشعري كما ينبغي وكذلك جيل الشعر العربي الحديث لأنه استطاع أن يحقق قفزة نوعية لم يتمكن النقد منها.

دعنا نعود الى قبعتك الثانية كما تقول، العمل الديبلوماسي والتجربة السياسية في اليسار حيث كنتم تحلمون بالثورة، أين موقع الثورات اليوم على ضوء ما يحدث في العالم؟

ان الثورة الحقيقية التي كانت البشرية تحلم بها وقضت قرونا من الزمن في صراعات وحروب ونضال، من أجل تحققها أملا في تغيير وجه العالم، قد تحققت الآن. ذلك أننا لوقت قريب كنا نعتقد أن المحرك الأعلى لعجلة التغيير هو السياسة، ولهذا فإننا كنا ننتظر ونعمل من خلالها من أجل تغيير العالم وتطور المجتمع، لكن التطور التكنولوجي أو ما يعرف بالثورة الرقمية الحالية، أثببت لنا أن محرك التحولات الكبرى الاجتماعية والثقافية والاقتصادية والسياسية كنتيجة لذلك، يقع في مكان آخر خارج السياسة كليا.

انه ما يحدث اليوم في العالم أجمع داخل هذه الثورة الرقمية التي حولت العالم الى شاشة صغيرة. بحجم بضعة سنتيمترات، وكنا قبل نحلم بأن نرى العالم يوما مثل قرية صغيرة ونتحدث عن ذلك بشكل شبه طوباوي.

ان عملية التبادل والحوار والتواصل بين أبناء الأرض أصبحت أمرا عاديا مألوفا في متناول كل فرد خارج حدود الأوطان واللغات وخارج هيمنة سلطات الجيوش والبوليس والأديان والمال.

اليوم واليوم فقط نستطيع أن نقول إننا أبناء “كوكب الأرض” وإن هذا المكان الذي هو الأرض قد اختزلناه الى شاشة رقمية في كل جيب.

أليس هذا التحول تحققاً لنص شعري عظيم تكتبه البشرية عبر مغامرتها الانسانية هذه؟ وأنا أفضل استعمال مصطلح “المغامرة البشرية” على مفردة “الحضارة ” التي ماتت كليا.

سنرى أنه حتى مفهوم الدولة والجيوش والسلطات سيتغير كنتيجة لهذا الانقلاب الكوني/الكينوني الذي نعيشه ولا نعرف الى أين.

 

لنعد الى الوطن، أخبرتني أنك كنت في العراق منذ فترة قصيرة وأقمت عاما كاملا… ماذا يحدث في بلادك؟

منذ أكثر من أحد عشر عاما تدور في العراق عملية سياسية أحدثت انقلابا جذريا في رأس السلطة وفي آلية تداولها وأدخلت بشكل جريء الممارسة الديموقراطية كتجربة أولى لم يعرفها العراق قبل وحتى على مستوى المنطقة العربية. وهذا سبب عودتي الى العراق بعد منفى دام ثلاثة عقود…

يقود هذه التجربة وبشكل طائفي معلن ومعترف به من الجميع، شيعة العراق الذين حرموا من الحكم كل تاريخهم أي أكثر من اثني عشر قرنا، ويساندهم في هذه العملية جزء من سنة العراق.

يجب ان نعترف اليوم وأنا عائد من هناك بأن هذه التجربة قد أخفقتْ وأن نتائجها محبطة وكارثية على الوطن والمواطن.

السبب في ذلك هو المنحى الطائفي الذي أسقطَ مفهومَ المواطنة والوطن لمصلحة الطائفة والدين وحلّت المحاصصة الطائفية محل الكفاءة والقدرة والمعرفة في احتلال المناصب القيادية وحتى الصغيرة منها…

تصوري أننا بعد أكثر من عقد من السنوات وبعد صرف ونهب أكثر من 1200 مليار دولار (وبهذا المبلغ ممكن أن تصلح قارة بكاملها)… لكن العراق أصبح اليوم ركاما بشريا وماديا…

لقد تحطم الكيان والكائن معا… العراقي مهدم مثل مدنه ومثل قراه ومثل مرافقه الحياتية ومثل البنى التحتيّة…

ان العراق اليوم كومة من دمار ونزيف دماء وأموال لا يتوقف… من المسؤول عن كل هذا؟ هذا هو السؤال الذي يرفعه كل عراقي شريف، وكل مواطن مؤمن بالعراق كوطن قبل كل شيء.

ليست المشكلة الآن كما هو واضح في اللغة السياسية، أي في بقاء زعيم سياسي أو في رحيله كما أعتقد… ان المشكلة هي في إنهاء سياسة المحاصصة الطائفية واستبدالها بسياسة بناء القدرات والكفاءات والكوادر العلمية والمعرفية القادرة والمجربة ووضع الوطن فوق الطائفة مهما كانت شيعية أم سنية، وإعادة كتابة دستور يحترم الجميع ويحترمه الجميع…

هكذا وهكذا فقط يمكن إنقاذ العراق، ولم يفت الأوان بعد.

 

أخيرا، ماذا عن مشروع “كتاب في جريدة” الكتاب الهديّة الذي كانت تصدره اليونسكو، والذي كنت مسؤولا عنه، لماذا توقف هذا المشروع؟

بعد ستة عشر عاما من العمل المتواصل انطلاقا من بيروت وفي جميع الدول العربية وتحت منارة اليونسكو حقق “كتاب في جريدة” أكبر إنجاز ثقافي عربي مشترك دون منازع… فقد نشر 160 كتابا مصورا بمعدل ثلاثة ملايين نسخة لكل اصدار تم توزيعها مجانا – وهذه مسألة مهمة – في جميع الدول العربية بمعية ومساعدة أكبر الصحف اليومية العربية.

هذه العملية لم تحدث في كل التاريخ العربي وهي الحدث الثقافي العربي الأول من نوعه… اذ لم تعرف المنطقة العربية أنْ يصدرَ كتاب ويوزع في نفس اليوم مجاناً في جميع الدول العربية وبملايين النسخ. لا أعرف نموذجا آخر غير “كتاب في جريدة”… وقد منحت اليونسكو جائزتها لهذا العمل وكرسته في سياستها الثقافية.

توقف المشروع لأسباب مادية تتعلق بالرعاية المادية. ولكن تكاليف إصداره هي رمزية وليست بذات شأن. وان المنطقة العربية الغنية لا يمكن أن تقف مكتوفة الأيدي أمام مسيرة حضارية ثقافية ناجحة مهددة بالتوقف نهائيا…

من هنا فإن ثقتي واسعة بأن “كتاب في جريدة” سيعود لانطلاقة جديدة، خاصة ان القارئ العربي والصحف الشريكة تطالبنا بإلحاح بالعودة الى الصدور من جديد.

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى