صلاح ستيتية .. ممزّق بين ثقافتَين وحضارتَين

الجسرة الثقافية الالكترونية
جهاد فاضل
صلاح ستيتية شاعر كبير من شعراء الفرنكوفونيّة، وهو شاعر لبنانيّ الأصل من بيروت، مُسلم من حيث الجذور والتراث والهُوية، ينظر إليه النقاد الفرنسيّون المُعاصرون على أنّه أحد كبار شعراء اللغة الفرنسيّة في زماننا الراهن. وقد صدرت له مذكراته بالفرنسيّة قبل حوالي شهرين من اليوم، ويعمل مُترجمون في بيروت على نقلها إلى لغة الشاعر الأصليّة أيّ اللغة العربيّة. ويؤلّف ستيتية نوعًا من جسر بين ثقافتَين وبين ضفتَين.
وهي حالة أغنت تجربته الشعريّة، كما أغنى هذه التجربة عمله كسفير للبنان في الخارج، حيث مثّل بلده في بلدان شتّى كان آخرها عمله في باريس، حيث كان سفيرًا للبنان لدى منظمة الأونسكو. وفي الكتاب الذي نقله باحث لبنانيّ من الفرنسيّة إلى العربيّة وصدر حديثًا في بيروت «ابن الكلمة» نجد صورة واضحة للشاعر، إذ يروي فيه حياته ومسيرته الأدبيّة والشعريّة. مثقّف عربيّ مُسلم من بيروت درس في معاهد فرنسيّة في بيروت وباريس، فأمست الفرنسيّة لغة الفكّر والعقل عنده. صحيح أنه لم ينسَ العربيّة نسيانًا تامًّا، ولكنها لم تعدّ لغة التعبير الأولى عنده، وهو وضع شاركه فيه أدباء كثيرون من الشرق العربيّ والمغرب العربيّ بحكم الظروف التي خضعوا لها في المدارس الأجنبيّة، كما خضع صلاح ستيتية، وكان لهم جميعًا شأن كبير في مسيرة الأدب والشعر والفكّر في فرنسا والعالم.
كتاب «ابن الكلمة/ شاعر بين الإسلام والغرب» عبارة عن محاورات أجرتها الباحثة الفرنسيّة غواندولين ياركسيك مع الشاعر، وهي محاورات معمقة يكشف فيها الشاعر خفايا تجربته، ونكتشف نحن فيها مثقّفًا كبيرًا ليس في أمور الشعر وحسب، بل في قضايا فكريّة مختلفة، الشاعر في حوالي التسعين عن عمره الآن، ولكنه حاضر الذهن، يقظ العقل، يعالج كل ما تطرحه عليه الباحثة باقتدار واضح. إنه ليس مجرد شاعر يطارد الأوزان والقوافي بكفاءة عالية شهد له بها الجميع، وإنما هو رجل حوار من الدرجة الأولى، وهذا أول ما يخرج به المرء وهو يطالع «ابن الكلمة» شارحًا الظروف التي قادته إلى الشعر بالفرنسيّة، وإلى أن يجوب الأرض وصولًا إلى شيخوخته القريرة الحالية التي يمضيها في منزل قديم يملكه في إحدى ضواحي باريس.
يبدأ صلاح ستيتية محاوراته بالحديث عن «منحنى حياته» والعبارة في الأصل من وضع أستاذه المستشرق الفرنسيّ لوي ماسينيون. منحنى حياة صلاح ستيتية بدأ في بيروت، في بيئة تقليديّة ولكن منفتحة، مع أب واسع الاطلاع ولغويّ ومدرس وشاعر أيضًا. شاعر تقليديّ بالطبع. ومع أمٍّ كانت تقرأ وهو ما كان نادرًا بين نساء جيلها. وبعد دراسة أولى في بيروت وفي مدارس يصفها بالجيدة، يتابع صلاح ستيتية دراسته في فرنسا. يدرس الحقوق والأدب، كما يدرس في المدرسة التطبيقيّة للدراسات العليا مع لويس ماسينيون الذي كان قد زكّاه عنده غبريال بونور مدير مدرسة الآداب العليا في بيروت، والمفكّر الكبير والناقد العظيم الذي كان واحدًا من أساتذته النادرين الذين أصغى إليهم وأحبهم. وبفضل لويس ماسينيون استطاع اكتشاف جذوره والعودة إلى العالم العربيّ الإسلاميّ، ثم اكتشاف أنه أصبح موضع تجاذب بين ثقافتَين وحضارتَين.
والمفارقة أنه كان متجاذبًا سعيدًا لأنه ابتدأ يشعر بطاقات تعبر من عالم لآخر فتحفز الاثنين معًا وتتيح له بأن يبقى على خط التماس حيث تكون له ميزة البقاء في غاية التيقظ!
منذ تلك الفترة المبكرة من حياته كان على علاقة بشعراء جيله ومنهم بصورة خاصة بيار جان جوف الذي كان يكبره سنًا، ولكنه كان مفيدًا فائدة عظيمة له. «فهو شاعر ذو موسيقى داخلية عظيمة وروحانية مرهفة تنتمي إلى نوع من المسيحيّة المتميّزة البعيدة عن كل ارتباط مؤسّساتي». وهناك، بحساسيّته كشرقيّ وكعربيّ، شعر كأنه في بيته.
ويتابع مسيرته بين مهنته كدبلوماسيّ ومهمته الكتابيّة: الانتقال من واحدة لأخرى، العبور. واجبه هو العبور. وهكذا تكون حياته بكاملها نوعًا من العناد أمام كل الجدران من أجل تجاوزها.
ويصف مهنة الدبلوماسية بالمهنة الطقوسية، مهنة «تمثيل» كما يقال عنها. كما يصف لبنان بأنه بلد امتاز بحظ فريد في التاريخ يتيح له أن يحاور ذاته عبر عائلاته الروحية. في لبنان مسيحيون من كل المذاهب.
تشكيلة فريدة من المعتقدات وأطياف المعتقدات. ولدى المسلمين لا يقلّ التنوع عن ذلك: سنّة وشيعة ودروز وعلويون..
ويقول إنه كان شاعرًا تمامًا كما يدخل آخرون إلى السلك، أي بترجمة كل شيء على ضوء ذلك الجهد أو ذلك الإصغاء الذي كان يفرضه على نفسه ليسمع أصوات العالم. أدوات الدبلوماسي والشاعر هي ذاتها:
اللغة، على الدبلوماسي أن يستخدم اللغة الأكثر تجريدًا، الأكثر «تغييبًا»؛ لأن تلك اللغة لا تهدف أساسًا إلى التعبير عن نفسه، بل إنها أوكلت إليه لكي يدافع عن مصالح جماعته، وهي مصالح لا يحق له تجاوزها عبر إضافة أية نبرة شخصيّة مهما كانت. ولكي يبلغ تلك الحيادية في اللغة، يتوجب على الدبلوماسي أن يكون واسع المعرفة. لكنه ما أن يتحرّر من تلك اللغة القسرية حتى ينتقم منها، فينفجر مطلقًا من ذاته كل ما كان مضغوطًا ومرفوضًا ومهملًا. «لذلك نجد سفراء بين الشعراء الأكثر إبداعًا في اللغة والصورة. يخطر في بالنا هنا كلوديل ونيرودا وسيفيريس وسان جون بيرس وأوكتافيو باث وحتى شاتوبريان. ومع أن هذا الأخير لم يكن شاعرًا بالمعنى الدقيق للكلمة، فإنه أعظم كاتب باللغة الفرنسيّة وأحد أهمّ مبدعيها. وتوثيق المعرفة باللغة لدرجة إيصالها إلى حالة عري فقير، يفترض من ناحية أخرى أن توجد في مقابل ذلك العري إمكانية إزهار لغويّ بالغ القدرة».
وفي إحدى ملاحظاته، يرى أن هناك تقاربًا كبيرًا بين الشعر العربي القديم والعظيم وبين الشعر الفرنسيّ المعاصر لكون هاتين الكتابتين مرتبطتين بنوع من الإشعاع الباروكي للغة في سطوعها العروضيّ والموسيقيّ الصارم، حتى وإن كانت الصرامة محبوبة بعض الشيء كما هو الحال في الشعر الفرنسيّ، بينما هي موجودة ومقنّنة في الشعر العربيّ التقليديّ، حيث يشكّل الإيقاع الجميل جوهر اللغة ذاتها. هو لا يتصور شعرًا لا تكون الموسيقى ممتلكة لواحد من مفاتيحه الأساسيّة.
ولكن كشاعر ودبلوماسيّ لبنانيّ كيف يحدّد وضعه في هذا العالم وفي فرنسا على وجه الخصوص؟.
يحتجّ على عبارة «تحديد وضعه»، إذ كيف يحدّد وضعه من هو صغير وعاجز وقليل الخبرة بكل ما له علاقة بالحياة وبالوجود، ومن يشعر انطلاقًا من نظرته عن ذاته أنه ظلٌّ أو خيالّ يعيش تجربة تفترسها السلبية قبل أي شيء آخر؟ ومع ذلك ورغم كل ذلك العدم الذي يحيط به، وفي مواجهته أيضًا، هو في خضم تجربة هي في نفس الوقت عقلانيّة ولا عقلانيّة، فكريّة وحدسيّة، أو غريزيّة. هو يشعر بالطبع بأنه موجود وبقوّة..
ويحدّد موقعه بداية في تراث يأتيه من انتماءاته التاريخيّة والعائليّة.
والأمر بديهي هو أنني عربيّ ومسلم، لبنانيّ أولًا. وهذا هو وضعي الجغرافيّ الأوّل. ثم إنني رجل تنقل كثيرًا في العالم، وقام بذلك في مسيرة دينامية مزدوجة. على الصعيد المهني أولًا، كنت بحكم عملي الدبلوماسيّ نوعًا من رحّالة مؤسّساتي. ثم إنني كنت ولم أزل كاتبًا. والكتّاب مدعوون في عالم اليوم إلى السفر من أجل ندوات ومحاضرات ومؤتمرات. كان الرحّالة المؤسّساتي الذي كنته نموذجًا آخر من الرحّالة يمكن تسميته رحّالة ثقافيًّا. وبحكم انتمائي إلى ثقافة مزدوجة، الثقافة العربيّة والثقافة الفرنسيّة، أجد نفسي بالتأكيد متجذرًا في الدرجة الأولى في التراث العربي وشاعرًا بحنين حقيقي إلى تلك الثقافة. ثم لدي انطلاقي إلى عالم اللغة الفرنسيّة، الذي هو مرفأ وصولي. وجدت نفسي منغمسًا بعمق في الفرنكوفونية، في «الفرنسة»، في «التغريب» وبما أن التغريب هو اليوم الكون بكامله، بفعل نتائج العولمة، فإنني أشعر فيما وراء الغرب الذي أقيم فيه، بأنني رجل منفتح ومهتم بالمجموعة الكاملة للقضايا المطروحة اليوم في العالم».
ويسمّى البحر الأبيض المتوسط الفاصل بين العرب وأوروبا «يمًّا» مثلما يسمّيه «أمًّا» فالمتوسط عنده أمّ بقدر ما هو يمٌّ. وهذا البحر الذي نعبره ونعيد عبوره باستمرار ما بين الضفة والأخرى هو على الأرجح شيء أساسي فيما يشكّل هُوية الشاعر صلاح ستيتية، وأيضًا في تعددية هذه الهُوية.
ويضيف إنه لم يتوقف منذ طفولته، وخلال مراهقته بشكل أكثر حدة، عن اهتمامه برحلة «النهايات الأخيرة» إنني في الأساس تأملي وارتيابي معًا، بحيث إن المسألة التي تطرحها «النهايات الأخيرة» قد حوّلت مسارها عندي لتصبح «قضية المعنى». ماذا يعني ذلك؟ ماذا يمكن أن يعني؟ كما كان مالارميه يتساءل تجاه كل ما كان يجول أمام بصره أو في فكره. ما هو إذن مكان هذا الشيء أو هذا الشعور أو هذه العلاقة أو هذه الكلمة في مسيرة الحياة. وحتى في مسيرة الكون ذاته؟ تلك هي قضية المعنى بالتحديد». إنه رجل التباس كما يقول، والألتباس مصطلح أساسي في حياته كلها، حياته المقبلة على نهايتها والمقبلة على التحوّل إلى مصير..
هل يمكن لصلاح ستيتية أن يشعر بأنه في منزله عندما يكتب باللغة الفرنسية؟ يجيب بالإيجاب وبالتأكيد. ويضيف إلى ذلك أن الكاتب يسكن دائمًا، حتى وإن كان يكتب بلغته الخاصة، نوعًا من اللاّمكان، يسكن منفى، كل كاتب منفي حتى في لغته الخاصة، وذلك عائد إلى أن كل إنسان يحاول رسم جغرافيته الخاصة ضمن الجماعة اللغوية التي ينتمي إليها.
ولقد أصبحنا اليوم ندرك أكثر من أي وقت مضى بأن كل كاتب، أيًا تكن لغته، هو في العمق إنسان خارجي يعمل على إيجاد مسكن له في اللغة، كما تقول مصطلحات هيدغر.
الشعر هو بحق تجربة المنفى، ولكن ما هو المنفى؟ هو تجربة واقع يوجد الإنسان فيه خارج المكان الذي كان يُفترض أن يكون فيه، والشعراء هم أولئك الذين لم ينجحوا بالتكيف مع المكان الذي وُضعوا فيه. مَن هو الفاعل المضمر للفعل المجهول هنا؟ ولكن في مطلق الأحوال هم هنا قدْر ما هم هناك. وأفضل من عبر عن تلك التجربة الأساسية للغربة والحنين هو بودلير. فلديه ما يشبه اللازمة عن تجربة الحياة كحياة هامشية بالنسبة إلى شيء آخر أكثر جوهرية وأغنى بالألوان والشمس والدفء والحب، بالحقيقة التكوينية في قول مختصر، من المكان الذي يجد الإنسان نفسه فيه، مُلقى فيه ومنه..
وهو يقول إن الشعر ينتظم في ذاته ومن دونه على امتداد أيام وأشهر، وسنوات أحيانًا. «ولقد عشت تجارب معبّرة في هذا الميدان، سأذكر اثنتين منها. عندما كنت سفير لبنان في الأونسكو، كان عليّ الذهاب يومًا إلى يوغسلافيا السابقة، حيث كان يُعقد المؤتمر العام للمنظمة. انتقلت في السيارة. في تورينو بإيطاليا تمّ خلع سيارتي ونهب ما فيها. وكان بين الأشياء المسروقة حقيبة تحتوي على مخطوطة قصيدة طويلة كنت أكتبها في تلك الفترة، كنت كتبت قسمًا كبيرًا منها. في بلجراد، تلك المدينة المنغلقة على ذاتها، لم يكن لديّ ما أفعله مساء سوى الكتابة.
قررت أن أعيد كتابة القصيدة التي كنت أعمل عليها منذ شهرين أو ثلاثة.
عدت بعدها إلى باريس، حيث وجدت «الحالات» الأولى لذلك النصّ، فأخذت أقارنها مقطعًا مقطعًا، وكم كانت دهشتي وأنا ألاحظ بأنني كتبت القصيدة ذاتها دون تغيير كما لو أن دروبًا قد رسمت سابقًا، وأنه لم يكن عليّ سوى اتباعها خلال الكتابة الأولى والثانية»!.
أما المثال الآخر فهو يمثل ذلك البطء الذي يسير به الشعر عنده لكونه مرتبطًا بمسيرة طويلة تتبلور خلالها الكلمات في صور أو مجرّات.
«كنت سفيرًا في هولندا ثم جاء تعييني في المغرب. وانتقال السفير من بلد لآخر لا يتم بسرعة أبدًا. فكان علي التوقف عن الكتابة أسابيع لكي أحزم حقائبي ثم أستقرّ في إقامتي الجديدة ومهماتي الجديدة. عند عودتي إلى أوراقي وجدت قصيدة توقفت عند البيت العاشر أو الثاني عشر منها، وإذا بالبقية تأتي وحدها بصورة تلقائيّة. خلال ذلك كانت الإنارة قد اختلفت، والناس قد تغيّروا. وظروف حياتي قد تبدّلت، ولكن القصيدة استمرّت بالانبثاق من ذلك الليل الداخلي الذي كانت قد تشكلت فيه شبكة العنكبوت الخفية، لم يلزمني أكثر من أن أبدأ بحذر سحب خيط تلك الشبكة لكي تحضر القصيدة. هناك أيضًا عرفت بأنها كانت جاهزة في نفسي، خارج إطار كل تدخّل» هيدغر يقول:» الحفاظ على الذاكرة يعني تأمّل النسيان»!.
ويعود مرة أخرى إلى البحر الأبيض المتوسط: «لقد فُتنت دائمًا بهذا البحر؛ لأنه ينتمي إلى طفولتي. طفولة كانت نافذة مفتوحة على المتوسط بالتحديد. كان بلدي الأصلي لبنان، وما زال، واجهة آسيا على البحر المتوسط.
وأنتمي من هنا بالتحديد إلى بيروت، ذلك الرأس المتقدم، لسان الأرض الحقيقي الذي تمدّه آسيا. يمدّه الشرق نحو المتوسط. فيما بعد، وأنا أحلم على شطآن المتوسط، وغالبًا في تلك المقاهي البالغة الشاعرية وشبه البدائية التي كانت تفتحها بيروت أمام مدخني النارجيلة ولاعبي النرد، كان يتشكل بصورة مفارقة حلمي بالذهاب بعيدًا، بالرحيل. ولقد سرحت نفسي فترة طويلة في زمن الحلم، فراشة صغيرة في الأزرق المتوسطي، قبل أن استقلّ المركب إلى فرنسا في بداية الخمسينيات من القرن الماضي. كنتُ على الدوام قاطنًا تلك الحدود، حدود جغرافية وغير مرئية بين لبنان وفرنسا. لبنان بأرضه المعجونة بحصافة البشر العتيقة، بدياناته ومذاهبه وهرطقاته وأدقّ ملامحه الدينية، بتناقضاته الثقافية التي تجاور فيها منذ الأزل الشرق والغرب حتى في العنف أحيانًا أو بعد ذلك عبر الفتح العربيّ والحاسم لكامل الشرق ولأكبر جزء ممكن من الغرب. ثم الغزو المضاد الذي ستمثله الحملات الصليبية إلى أرض الشرق في زمن كان القرن، بفعل بطء، مرور الوقت، يوازي ألف سنة»!.
وتسأله الباحثة: ستكون حياتك على الدوام إذن مسكونة بالشرق والغرب معًا، فيجيبها: «مثلما ولدت في لبنان، ولدت أيضًا في اللغة الفرنسيّة لكون جميع مراحل دراستي، من الابتدائية إلى الثانوية، وحتى بدايات دراستي الجامعية في بيروت، كانت باللغة الفرنسية، هناك على شواطئ ذلك البحر، قد أكون أحسست للمرة الأولى بالوقفة الجغرافية والوقفة الفكرية أيضًا التي ستجعل مني ذلك الإنسان الذي يعرف دائمًا كيف يفسح المجال، في تفكيره وفي موقفه أمام الحياة، لحدس التباس الأشياء ومأساويتها الذي اكتشفه في كتاب مختارات صغير من أفكار باسكال كان قد قرأه بنهم في الصف الأوّل أو الثاني الثانوي. سوف يلازمني على الدوام ذلك المعنى للالتباس المأساوي، وسيجعل مني خلال عملي الدبلوماسيّ، إنسانًا حسّاسًا لعدم استقرار العلاقات الدوليّة، وحسّاسًا أيضًا، عبر الشعر، لتناقضات الكلام، أعتقد بأننا لا نختار بالصدفة مهنة أو طريقة تعبير، لأن ما في داخلنا يدعونا إلى التقدّم إلى الأمام..
هذا قليل من كثير تضمنته محاورات صلاح ستيتية مع باحثة فرنسيّة، ولكنه قليل يقدّم فكرة جلية عن سفير لبنانيّ مثقّف، وعن شاعر باللغة الفرنسيّة يعتبره الفرنسيّون واحدًا من كبار شعراء لغتهم في العصر الحديث، وهو – كما رأينا – شاعر ممزّق بين ثقافتَين وحضارتَين، ولكن لعلّ هذا التمزّق في ذات صلاح ستيتية كان سببًا في غنى تجربته وإغنائها على الدوام بالطّارف والتّليد.
المصدر: الراية