«صمت» لمارتن سكورسيزي: الرب في مواجهة صراخ المؤمنين

سليم البيك

في إحدى المقابلات القديمة قال المخرج الأمريكي مارتن سكورسيزي إنّ ما منعه من إخراج فيلم عن المسيح هو فيلم الإيطالي بيير باولو بازوليني «الإنجيل حسب متى» (1963) الذي اعتبره الفاتيكان لاحقاً كأفضل فيلم يصوّر حياة المسيح. لكنّه أخرج أخيراً فيلمه هذا، «صمت»، وهو الفيلم الرابع والعشرون في مسيرته الفيلميّة، بعدما كان جاهزاً كسيناريو ينتظر التصوير منذ عام 1990، لكن سكورسيزي فضّل الانتظار في تصويره، لعدة أسباب منها أنه الآن أصبح شخصاً آخر بعد كل هذه السنين، كما قال، وقد صار جاهزاً وناضجاً لتصويره.
في الفيلم القائم على رواية «تشينموكو» (1966) للكاتب الكاثوليكي الياباني شوساكو إيند، ثلاثة أصوات لثلاثة رواة: الأول وهو مقتضب ويمهّد للحكاية، بصوت الأب فيرّيرا (ليام نيسن) الذي يبدأ الفيلم برسالة منه تصل إلى البرتغال، من اليابان، بعد سنتين من كتابتها واختفائه، يليه صوت آخر هو الأب سيباستياو (أندرو غارفيلد)، وهو بطل الفيلم، إذ يروي حكاية ذهابه وأب آخر (آدام درايفر) إلى اليابان للبحث عن معلّمهم فيرّيرا، الذي أُشيع أنّه ارتدّ عن الكاثوليكية وصار كاهناً بوذياً. والصوت الأخير لرحّالة هولندي يدوّن حكاية الأب سيباستياو، وهو خاتمة الفيلم. يبقى الأساس في كل ذلك هو رحلة الأبوين إلى اليابان حيث كانت تجري ملاحقات للمسيحيين وإعدام من لم يرتد منهم بالدّوس على نقش لصورة المسيح أو مريم.
العنوان، «صمت» (Silence)، يشير بشكل مباشر إلى صمت الله كلّما ناداه أحدهم، إن كان ممن أتى للتبشير من البرتغال، كالآباء الثلاثة، أو من المتحوّلين إلى المسيحية من اليابانيين. صمت يقابله ملاحقة وترهيب وتعذيب وقتل بشتى الأساليب.
الفيلم من الناحية الفنية عادي، تقليدي من ناحية التصوير، السينماتوغرافيا، الإخراج، كفيلم هوليوودي جيّد، كالعديد من أفلام سكورسيزي، لكن عنصر القوة في الفيلم هو السيناريو، حكايته والحوارات فيه، حساسيتها وعمقها، وهو فيلم فلسفي وإنساني وليس روحياً بالمعنى الديني، ولا يضع المسيحية مقابل البوذية، بل يذهب أعمق في ذلك إلى سؤال الإيمان، يضع الرب مقابل الإنسان، ومعنى الربوبية مقابل عذابات الإنسان.
والسؤال المتكرر عن الله، عن سبب عدم سماعه لنداءات المسيحيين الفقراء من اليابانيين، أو نداءات هذا الأب أو ذاك ممن خاطروا بحياتهم في الذهاب إلى اليابان للتبشير بالكاثوليكية، هو سؤال وجودي فلسفي يحضر في مشاهد عدّة قد يكون اللقاءان بين الأبوين فيرّيرا وسيباستياو وحوارهما عن معنى الإيمان وصمت الله إزاء عذابات عباده المخلصين أهمّها.
وليس الفيلم، المعروض في الصالات الفرنسية، مناوئاً للكاثوليكية أو البوذية، بل هو، أخيراً، يحتفي بالفكرة الإيمانية إنسانياً، وبقوة الإنسان على التمسك بإيمانه دون أن يشمل ذلك احتفاءً بالدين نفسه أو بالله. والفيلم يقدّم سؤال الإيمان بمعناه العام، المتخطي للأديان، نرى فيه إيماناً عميقاً لدى الناس، يقول فيرّيرا إن عمق إيمانهم آت من الصلابة التي تعودوا عليها من إيمانهم القديم المتوارث كيابانيين وليس من شدّة تعلّقهم بالمسيحية. والمدهش هنا هي القدرة الآدمية على ذلك، على الحفاظ على الإيمان وصونه وإخفائه رغم «صمت» الرب وسؤال سيباستياو المتكرر عن ذلك، وهو صمت ممتلئ بصرخات التعذيب، هو صمت الرب وصخب الإيمان وصراخ المؤمنين.
لكن، ما يمكن أن يؤخذ على الفيلم هو عدم الإشارة إلى أن الحملات التبشيرية آنذاك كانت مصاحبة للاستعمار، وإن لم يكن هو الحال في اليابان التي كانت دولة قوية بل لاحقاً، مستعمِرة بدورها. كما يؤخذ على الفيلم أن البعد الفلسفي له كان «نقياً» من فكرة الاستعمار وممارسات المستعمر، إذ كيف يمكن الحديث عن الحملات التبشيرية بفلسفية، والتركيز على تعذيب الأهالي المحليين للمبشرين الأجانب وتابعيهم دون الخوض في مسائل اقتصادية سياسية مرتبطة أشد الارتباط بأساس الاستعمار، والتبشير كان دائماً اليد الناعمة لهذا الاستعمار، ما يضع الفيلم، اليوم، في سياق استشراقي تقليدي دأبت عليه هوليوود كواحدة من مصنّعي «صورة الشرق» لدى «الغرب».
حضر في الفيلم حوار قصير حاول فيه أحد المتنفّذين اليابانيين إفهام الأب سيباستياو (وكان في نبرته شيء من التحذير) أن لليابانيين دينهم الخاص وأنهم لا يريدون ديناً برتغالياً أو إسبانياً أو إنكليزياً، في وقت كان كلام الأب روحانياً تماماً ومخبّراً عن عالمية الكاثوليكية، وكان كلاماً ساذجاً جداً إن كان الأب يعتقد به وخبيثاً جداً إن لم يكن. الوحشية في الفيلم كانت يابانية والسلمية كانت غربية، كان اليابانيون الأشرار فيه والأخيار كانوا المبشرين الغربيين وأتباعهم من اليابانيين المسيحيين، هوليوود هنا من جديد.
من مخرج معروف كسكورسيزي، يمكن أن نتوقع فيلماً يتخطى «الجيد هوليوودياً»، فيمكن إيجاد مخرجين من أجيال لاحقة له، هم بمثابة التلاميذ مقارنة به، يتخطونه في جودة أفلامهم التي خرجت خلال سنة، أو خلال السنوات الثلاث الماضية، وقد أخرج سكورسيزي «ذئب وول ستريت» في 2013 دون أن يكون فيلماً استثنائياً مقارنة بما زامنه من أفلام. أهمية سكورسيزي هي إذن تراكمية، ومن بين أفلامه الأربعة والعشرين (غير التلفزيون والوثائقيات) نجد ما يمكن تصنيفه ضمن أفضل الأفلام في التاريخ كـ «راجينغ بول» في 1980 و «تاكسي درايفر» في 1976. وغيرهما من الأفلام المعدّة من بين الأفضل أمريكياً (وليس عالمياً)، إنّما المتزاحمة مع العديد من الأفلام الجيدة كذلك.
في الحديث عن الفيلم الذي تجري أحداثه في ناغازاكي في اليابان، في القرن السابع عشر، لا يخفي سكورسيزي في مقابلة مطوّلة مع مجلة «سايت آند ساوند» الإنكليزية انبهاره بالثقافة اليابانية، والسينما منها تحديداً، وبالأخص المخرج الياباني ياسوجيرو أوزو صاحب أفلام قد يكون أهمها «حكاية طوكيو» (1953)، المصنّف ضمن المراتب الأولى في لوائح أفضل الأفلام في التاريخ. لا يخفي سكورسيزي في المقابلة تأثره بالسينما اليابانية، من أكيرا كوروساوا إلى كينجي ميزوغوتشي وأخيراً أوزو الذي قال سكورسيزي بأنّ روحه متواجدة في فيلمه «صمت».

(القدس العربي)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى