«صولو» للأردني مهنّد العزب: عزف منفرد على هموم الإنسان

الجسرة الثقافية الالكترونية –
نادية الازمي
يحاول القاص الأردني مهند العزب في إصداره الثالث «صولو» أن يعزف على قيثارة القصة القصيرة جداً عزفاً منفرداً، من خلال (71) قصة قصيرة جداً، حملت ثيمات تعكس وجع الإنسان، يتصدرها غلاف موسوم بالبوح، مسكون بهموم الوجع الذي يودعه الإنسان في صدر أخيه الذي يحضنه، فيكتمل المشهد العام والرؤيا العامة، على حساب ضياع الملامح الدقيقة لجسدين، مما يشي بأنّ طابع المساندة والمآزرة والمحبة تنطلق هنا من الخاص إلى العام.
ترصد قصص «صولو» عاهات نَخرت بنية المجتمع، وأقعدته عاجزاً عن الإنتاج والتجديد والعطاء، وتحمل هموم الإنسان والمجتمع، تحكي عن الصغير والشاب والشيخ، وتحكي حتى عن الحيوانات التي كانت لها أدوارها الفاعلة في خلق المفارقة في قصص هذه المجموعة. حتّى كأن الكاتب بهذا التنوع وهذا الغنى؛ يصرخ عالياً أنا أعزف متفرداً، بعيدا عن القطيع، ولي أسلوبي الذي يميزني وأنا أخلق حيوات تعيش ولا تنفصل بانفصال الروح. يقول في قصة: «حيوات»
«فتى في لوحة، يقطف لفتاة في صورة مجاورة، زهرة من بستان على السجادة الممدودة على الأرض، في البيت المجهور». ص57.
هي عزف منفرد لأنها تشد أنفاس القارئ من بدايتها إلى نهايتها، وتسافر به في عمق الإنسان، وتوقظه من سباته، وتغريه بالحياة الأجمل، فيبعد عنه شبح الموت، مثلما يبعد بطل شخصية هاجس ذلك الشبح عن ثعلب ينظر إلى فرائه. وهذا تماما ما نقرأه في قصة هاجس:
«كلما نظر إلى فرو الثعلب المعلّق في غرفته في ليلة شتوية، يبعد فكرة أنه قد قُتله، ويفكر أن كل ما في الأمر، أن الثعلب يركض مسلوخا في العراء». ص95.
تلكم النظرة العاجزة المحبة التي تجعلنا نحلم بأنّ العالم أكثر براءة، دون أن نحاول الانتباه إلى عدم تكرارها والخروج منها بخلاصات مفيدة، والنظر إلى الحقيقة بعين لا تغطيها غشاوة في إصرار عجيب على كمال متخيّل لا يتحقق إلا في ذهن عاجز عن الفعل الحقيقي.
مساحات مكشوفة من كوة الاختناق
في هذه المجموعة أسئلة ذكية، أكثرها ذكاء وإبداعاً وحريّة سؤال: من يسجن من؟ تلك الرؤية التي تخلق بوناً شاسعاً بين من يحمل سجنه داخله، ومن يحاول خلق مدى أرحب من مجرد نظرة. في قصة «آفاق» نقرأ ما يلي:
«في عتمة السجن.. ينظر السجان إلى السجين من كوة الباب..
أما السجين فيملأ عينيه بالنظر من شرخ في الجدار، إلى الأفق الرحب» ص11.
ويتكرر السؤال وتتداخل المساحات؛ إذ نلاحظ أن الزوجة التي يمارَس عليها الكبت/ السجن. في تلك العلاقة الجدلية، وذلك التشابه المؤلم بينها وبين العصفور، تحلق معه، في محاولة، ذهنية، لفك الحصار المضروب عليهما. تقول قصة « أقفاص»
«بعد أن يغلق زوجها عليها أبواب المنزل ونوافذه، وتبقى وحيدة..
تلتفت إلى العصفور الذي في القفص، وتفتح له الباب.. يظل يطير يطير ويطير في الغرفة..
وهي تتملكها الحيرة، هل أعطته حريته، أم سجنته معها؟» ص13
هي علاقات إنسانية تفتقد طبيعتها الانسيابية في واقع الحياة، فترصدها عين السرد في لحظة حميمية، وتنثر دفئها على المحيط الذي يدثّر المشاعر ويحميها من صقيع الخواء، وحسبنا هنا أن نشير إلى قصة «برد» التي تؤكد حاجة الإنسان لدفء أخيه:
«بعد أن أيقن أن أصدقاءه الذين دعاهم للاحتفال معه بليلة رأس السنة، لن يأتوا..
دون وعي، طرق باب الجار، وعندما فتح له، أخبره أن مصدر الدفء عنده نفد، فدعاه للدخول..
استغرب الجار، أنه لم يقترب من المدفأة .. ولكن، من الجمع الذي يفيض بالفرح والألفة. ص 17
حتى الحيوانات في «صول» العزب تبحث عن دفئها، عبر مساحات تضحى شبه مكشوفة تقلب الأدوار، وتنظر للراسخ في عقولنا من زاوية مختلفة، فتضغط على الجرح، ليضحى مركب الأمان المعهود له بالوفاء والصدق مناط شك وريبة، فنحن من وجهة نظر الآخر لسنا ملائكة أبداً. في قصة «وجهة نظر» نقرأ:
«تسرد الذئبة أيضا لصغارها قصة ليلى والذئب، وفي آخرها تقول:
لذا يجب ألا نقترب من البشر، فكلهم يريدون فراءنا» ص37.
أمنيات على رصيف الغياب
ثمة عديد من القصص في المجموعة تصنع كمالها السردي اعتماداً على نقص الإنسان، فترصد في لحظة الدهشة صورة المقعد والكفيف، فتضيء للقارئ ليل الشخصية في لحظة نادرة، وهنا نقرأ بداية قصة «سراب الارتواء» حيث نجد:
«بالقرب من المضمار الذي يجري فيه المتسابقون، يجلس على كرسيه المتحرك والى جانبه كثير من زجاجات الماء البارد، التي يناولها للعدائين.. تجلس أمه قربه تراقب..
وفي نهاية السباق، عندما تبقى بعض الزجاجات تقول له: اشرب .. يبتسم ابتسامة عابرة، ثم ينظر لآثار المتسابقين على الأرض، ويجيب: أتمنى لو اكون عطشا «مثلهم» ص14.
أمنية الحصول على الماء ها هنا تنسحب على الآخرين الأكثر قدرة ،بينما تصبح لدى البطل/ المقعد مجرد سراب، يملؤه بالتمني: سوريالية المشهد المربكة، تترك لدينا قناعات أن أي قراءة للوضع الملتبس، ستكون قراءة غير واعية في حضرة الغياب أو الفقدان، وها هي ذي قصة «رؤى العتمة» تنحو المنحى ذاته، وتخلق من الفقدان أنشودة ربيع محتمل:
«تبتسم الأم عندما تشاهد طفلها الكفيف، نائما بين إخوته،
فكلهم الآن مغمضي الأعين، يرون الأحلام.» ص 31
تلكم هي الطبيعة التي تتشابه والأم في العطاء، وتستشعر لحظة للفرح في وضع قد لا يكون بتلك الإمكانية الحقيقية، ولكنه وضع قادر، على الأقل، أن يحقق التوازن اللحظي الذي تمده الأحلام بهالة الإنصاف المنشود.
أمنيات شبيهة أخرى تظل عادة طي النفس، ولكنها، في مبضع الجرّاح السردي تتجاسر في محاولة لفك أسرار اللحظة الحاضرة عن الذات، للخروج بها إلى بر الأمان، وهذا ما نقرأه في قصة «ثأر»:
«الشاب الذي احترق في صغره، يخرج من البيت ليلا، ليشعل ناراً على الشاطئ ثم يبتعد،
مراقباً المد القادم وهو يطفئ تلك النار، ليبقى وحده المشتعل.» ص33.
النار التي تأكل كل ما يقف في طريقها، هي نار ظالمة، وقد أكلت جزءاً من لحم الصبيّ الذي يريد أن يجعل منها برداً وسلاماً على الآخرين.. هذا الخروج عن الواقع، يشبه ما سبقه.. فهي إذاً كلّها أحلام قد تبدو بسيطة للغالبية العظمى، ولكنها تغرق في الاستحالة، ولا ينقذها من لحظيتها غير فكرة تسكن عقل مبدع. وها هو ذا مهند العزب يؤكد ذلك في قصته «أحلام بسيطة»:
«الطفل صاحب اليد المقطوعة، يتمنى سراًـ أمام كعكة عيد ميلاده ـ لو يستطيع أن يربط حذاءه ولو لمرة.»
العاهة، موتٌ على حافة الحياة:
عند أبواب الجحيم يفقد الناس الأمل، وفي جحيم العاهة حيث يعمّ اليأس يفقد الناس الطريق، فيقنعون بالركون إلى ما هو واقع، وهنا بالضبط تقف عين السارد، لكي ترصد لحظة من اللحظات الإنسانية النادرة، حيث العاهة ثيمة تشترك فيها الكثير من قصص المجموعة، ليس من منظور بؤس وشفقة، بل إنها تتجاوز هذا المنظور الكلاسيكي لتقديم جرعة أمل، هي نظرة تتنازعها الأمنيات التي تسكن الإنسان في بحثه الحثيث عن فرح محتمل، على نحو ما نجد في قصة تواصل:
«عندما انقطع التيار الكهربائي، وانطفأ النور.. شارف الطفل الأبكم أن يبكي، فإشاراته لم يعد لها أي فائدة في العتمة.. ولكن حين شدّ على يده رفيقه الكفيف، لم يبكِ واكتفى بدفء اليدين.» ص41.
وفي نظرة ثاقبة تحمّل المجموعة عبء عاهة الإخفاق لنا نحن الأصحاء الذين لا نستطيع إدراك ما يجول في ذهن المقعد أو الأعمى، في سعيهما للتحرر من سجنهما، إنه الأمل المبطن في أمنية تبدو عادية لآخرين، ولكنها قد تتجاوز كل التوقعات، لتحلق بنا في أفق إنسان مُقعد تتحدث عنه قصة «إيثار».
«في المقهى، عندما يبحثون عن كرسي لزائر جديد، كم يود المُقعد أن يعطيه كرسيه ويمضي.»
في قصة أخرى يكشف العزب عجزنا نحن الأسوياء الأصحاء عن إدراك طموحات أولئك العاجزين، وعن إدراك كنه ذواتهم، ففي «تصوّرات» تحلّق الفتاة الحالمة بخيالها نحو عالم لا يسطيع أن يناله الشاب الذي لم تلمس قدماه الأرض لسبب لا يخطر في بالها:
«عندما سألته الفتاة على الإنترنت عمّن هو، أجاب: أنا شاب نادرا ما لمست قدماي الأرض.. فقالت له: لابد أنك بحار، فدفع كرسيّه المتحرك بعيداً، فيما استمرت هي بشرح شغفها بالبحر والبحارة.» ص51.
حياة موازية لحياة الفقدان
لقد ذهب القاص مهند العزب أبعد من مجرد عرض العاهة، فتعمق داخل ذوات الشخوص؛ ليعود لنا بحلم، واضح المعالم تتقاسمه شخوص الحكايات، حتى إننا يمكن أن نجد اللهفة التي تسكن فاقد الشيء، وتجعله يرغب أن يشاركه الآخرون في إحساس الفقد، حيث نجده يقدم لنا نموذجا خاليا من الزيف، يعيدنا إلى أحلام طفلة «تقتلع الطفلة الكفيفة عيني دميتها، ثم تقف أمام الشرفة.. حيث يلامس رذاذ البحر وجنتيهما كأنه الدمع.» ص57.
ومثل تلك التجربة التي قد تحمل الإنسان العادي إلى الشعور بالنعمة التي وُهبت له، و تجعله يدرك صعوبة التأقلم مع الفقدان نجد تكراراً لها في قصة «فلسفة» (ص55) وفي قصة «ألم» حيث يدفع الألمُ الطفلَ إلى اختراع أمنية يدسها في جيب إخوته، كي يستشعروا مدى ما يقاسيه؛ « الطفل الكفيف، يبحث في الإنترنيت عن طريقة لشراء سمكات عمياء من تلك التي تعيش في قعر المحيط، ليضعها في حوض أسماك إخوته». ص61.
هي أمنية إذأ يتحتم من خلالها أن تتحقق العدالة والإنصاف، فما لا يدرك حاضرا، يتوجب تغييره، وإن كان ذلك التغيير في صيغة أمنية، تسعى إلى خلق حياة متوازية.
الموت مرادف الحياة ومحرض عليها
إلى جانب الحياة التي يكاد يشع نورها في أمنيات تظل حبيسة في جدران القلب، تتأقلم الشخصيات مع وجودها لتخلق الاستمرارية.. وإن كان شبح الموت يطلّ بين حين وآخر، ليؤكد أن الموت والحياة ظلّان للإنسان من زاويتين مختلفتين، والموت حاضرٌ في المجموعة (ظاهراً ومبطّناً)، فهو النهاية الحتمية، وهو المحطة الأخيرة في رحلة الحياة، المحطة التي يدرك حتميتها من يقترب من الوصول إليها، ففي قصة سفر يرصد القاص ثنائية الحياة والموت في شخصين ينتميان إلى جيلين مختلفين:
«في منطقة مهجورة من المدينة، وفي الشارع المقابل للمقبرة ..وجدت عجوزا في آخر الليل يسير وحده، وعندما توقفت لأقله معي بالسيارة، أومأ أن أكمل دربك،لأني قد وصلت» ص75.
ويصرّ القاص على الفكرة ذاتها، في شكل كوميديا حيث تقول القصة: «توقف جانبي العجوز الأعرج، وسألني: أترى لو لم اكن أعرج، أكنت وصلت أسرع؟ ثم واصل طريقه إلى المقبرة.» ص93
* * *
يمكن إذاً أن نقول إنّ نصوص المجموعة حملت طيها كثيرا من الحكمة التي تؤكد أن الإنسان يتعلم حتما من تجاربه، ويجابه ضعفه بقوة يخلقها المِراس، وتسهم فيها النكبات. ومن القصص التي جسّت هذا المفهوم قصة طريفة عنوانها «عبرة» يقول الكاتب فيها:
عندما سئل العداء عن سر تفوقه، قال: «في صغري تركني الجميع ومضوا، لذا تعلمت ألا أركض وراء الآخرين، بل أمامهم». ص81
من خلال سيل الحكمة في هذه المجموعة ينمو لدى المرء شعور طاغ بالوحدة، وحين تنتابه حمى هذه المجموعة سيتعلم أن ينظر بحساسية إلى كل من حوله، ليجد نفسه (وليس دائماً) يعيش في طمأنينة خادعة مع أناس لا يستطيع معهم تحقيق شرطه الإنساني، فيصبح حاله حال بطل قصة «بعد»:
«كل هؤلاء الذين يكرهونني، صافحوني.. لكن يدي بقيت باردة». ص143.
لقد سار القاص مهند العزب في مجموعته على منظومة من القيم الإنسانية التي باتت مفتقدة، وقد شبهها بالعاهة، وقدمها في أوجه مختلفة، في ثنائيات متضادة، فبرز الخرس والعمى والشلل، بوصفها معادلات (بكسر الدال) لحالات إنسانية لا تشعر بعاهتها، وكأني به يدفعنا نحو مزيد من السير في دروب الحياة بحثاً عن فرصة أفضل للكلام، ونحو كوة أنقى للنور، بدلاً من أن ترهقنا الخسارات والخيبات.
القدس العربي