صُورٌ عن زيارات سابقة

الجسرة الثقافية الالكترونية
نديم جرجورة
لم يتبدّل شيءٌ. ينتابك شعورٌ بالملل في اللحظات الأولى لعبور المدخل الرئيسيّ المتبدّل مكانه بسبب أعمال إعمارية في المنطقة، من دون أن ينعكس تبديل مكان المدخل إيجاباً على المبنى الثقافي للحدث السنوي. ينتابك نوعٌ من انكفاءٍ. فالمدخل الجديد ليس مختلفاً البتّة عن سابقه؛ والترتيب المعتَمَد منذ سنين مديدة في توزيع أمكنة دور النشر الأساسية على الأقلّ والجهات الرسمية لدول وحكومات، لا يزال على حاله إلى حدّ كبير؛ وشيءٌ من رطوبة أو عفن يُلاحقك في تجوالٍ يجعلك تشعر بجولات قديمة، ويكاد يدفعك إلى إلقاء تحية من هنا، أو سلامٍ من هناك، على أناسٍ تظنّ لوهلةٍ أنك «تعرفهم جيّداً»، قبل أن تنتبه إلى أن معرفتك بهم مجرّد صُورٍ عن زيارات سابقة لك ولهم في المكان نفسه، بل للمشاركة في الحدث نفسه، وإن ينتقل الحدث من أول شارع الحمرا (الصالة الزجاجية في مبنى وزارتي الإعلام والسياحة اللبنانيتين)، إلى أسفل الفندق الأشهر في بيروت «هوليداي إن» (قاعة «إكسبو بيروت»)، قبل وصوله الميمون إلى الـ «بيال».
تركيبة لبنانية
تُحاول أن تتنصَّل من كلّ تفكيرٍ أو إحساسٍ سلبيَّين إزاء معرضٍ سنويّ للكتاب، يحمل اسم المدينة الملتبسة المعاني والتواريخ والحالات. تقول إن شيئاً لم يتبدّل، وتعي أن أمراً كهذا صحيحٌ جداً. يقول آخرون ما تشعر به، وبعضهم ـ إذ يعتلي منبراً، أو يتوسّط جلسةً عامّة ـ يُكيل مديحاً لعظمة بيروت وسط الانحلال المحيط بها، ولعظمة المعرض الذي يُقدِّم للمدينة ـ القابعة وسط انحلالٍ كبير ـ بعض نورٍ في عتمة الجغرافيا (كأنها، هي نفسها، متحرّرة من انحلالٍ متنوّعٍ). يقول آخرون ما تراه وتُجاهر به. يقولونه بحدّة أقلّ، ربما، لأن لبعضهم «مصالح» وعلاقات تُحتِّم اتّخاذ «أقصى درجات الحيطة والحذر» في التعامل مع حدثٍ كهذا، تُنظِّمه «مؤسّسة» ثقافية لها امتداد كبير في المدينة، ولها في الطائفة الداخلة في عمق «التركيبة» اللبنانية حيّز أساسي.
تُريد زيارةً ـ ولو وحيدة ـ إلى «معرض بيروت العربي الدولي للكتاب»، في دورته الـ 59 (27 تشرين الثاني ـ 10 كانون الأول 2015)، منزَّهةً عن كلّ حكم مسبق، نابع أصلاً من تراكم التكرار والروتين والثبات في جمودٍ خانق، يُصيب المعرض وخططه العملية على مدى دورات عديدة ماضية. كأن الإصرار على تنظيم دورات سنوية يتعدّى المشاركة الفعلية في إيجاد ركائز عمل ثقافي فعلي (يبدأ من صناعة الكتاب ويتمحور حوله)، إلى ما هو رديف حقيقي لـ «التركيبة اللبنانية»، التي ـ إذ تنكشف على توافق طائفي ـ تُعلن أن لمعرضٍ كهذا «حقّاً» في الاستمرار بـ «أي ثمن» و «كيفما كان».
إذاً، ليستمرّ المعرض. ليتّخذ من المدينة اسمها. لتكن الزيارة الوحيدة هذه متحرّرة من كلّ عبء مزمن إزاء دورات سابقة، وليكن البحث عن الإيجابيّ مغامرة لن تكون خاسرة كلّياً، إذ يبقى للكتاب حضوره في وجدان ذاتيّ، وشراؤه نوعاً من لذّة عابرة. لكن، هل يُمكن فعل ذلك، بعيداً عن سلبيات منتشرة في الزوايا والفضاء العام للمعرض؟
تفاصيل
كلّ شيء لا يزال على حاله. تغييرات طفيفة تفرضها «جغرافيا» المكان بسبب أعمال جارية في محيط الـ «بيال»، لن تكون أكثر من ترتيب مؤقّت لـ «زواريب» يُشبه بعضها أحوال الطرقات في مدن وقرى لبنانية. كثرة دور النشر لن تكون عائقاً لمن يُدرك دربه. الأصوات مرتفعة هنا أو هناك: من ناحية أولى، هناك أناشيد دينية. من ناحية ثانية، أغنيات ثورية. هذا كلّه جزءٌ طبيعي من معرض مفتوح أمام وقائع البلد، وإن يكن منهاراً. هذا جزءٌ من سياسات دور نشر في إصدار كتب ومنشورات ومطبوعات وتسجيلات. الزحام قليلٌ (يُقال إن عطلة نهاية الأسبوع تشهد، عادة، زحاماً، ويُقال أيضاً إن بداية الأسبوع الثاني للمعرض أفضل حالٍ من الأسبوع الأول على مستوى الشراء). عناوين الكتب كثيرة. جديدها متنوّع إلى درجة أن بعض الزوّار يسأل عن قيمة الموضوع في مقابل الكَمّ الهائل من الإصدارات الحديثة، وبعضها، من دون أدنى شكّ، مثيرٌ للانتباه (بالنسبة إلى بعضٍ أوّل)، أو للاقتناء (بالنسبة إلى بعضٍ ثانٍ). صوتُ المذيعة التي تُعلن، بين فينة وأخرى، عن برنامج النشاطات المرافقة للمعرض لا يزال مزعجاً، وإزعاجه يكمن إما في الصوت نفسه (هذا غير مؤكّد إطلاقاً)، أو في تجهيزات تقنية مهترئة (هذا «أوضح»). طبعاً، لن يكون مهمّاً القول إن النشاطات المرافقة هذه «نسخة طبق الأصل» عن شبيه لها في دورات سابقة عديدة. لن يُفيد بشيء القول إن بعض العاملين/ العاملات لدى دور نشر «عريقة» كـ «عراقة» بيروت، أو «كبيرة» كخديعة المدينة نفسها، يحتاجون إلى تدريبٍ حقيقي ومكثّف على أصول اللياقة والتعامل مع الزوّار.
السؤال المطروح دائماً: أي جديد يُقدّمه معرضٌ كهذا على مستوى صناعة الكتاب، وتسويقه؟ سؤال يبقى معلّقاً، والأجوبة المكرّرة لا تقول واقعاً حقيقياً يستند إلى إحصاءات لا تكتفي بعدد الكتب المبيعة (وهي هزيلة عادة، قياساً إلى عدد سكّان البلد والمقيمين فيه)، أو بأرقامِ زوّارٍ غالبيتهم الساحقة تختار الـ «بيال» أيام المعرض المذكور لتمضيةِ وقتٍ، أو لنزهةٍ عابرة. إحصاءات، أو بالأحرى تحليل يتناول أصول الحكاية، ومعنى تنظيم معرض يقع كثيرون، أمامه، في الفخّ نفسه: مديحٌ لبيروت التي لا تموت، أو انتقاد (قاسٍ أو هادئ، لا فرق) لصورته ومغزاه وأهدافه المغيّبة تماماً في مديحٍ لا يليق لا بالمدينة ولا بالمعرض، علماً أنْ مَن يسأل، جدّياً ونقدياً وسجالياً، عن الكتاب وصناعته، بعيداً من انفعال اللحظة، قليلون للغاية.
المصدر: السفير