ضحايا الغوستابو يعودون في «ملاك النّسيان»

الجسرة الثقافية الالكترونية

*عمر شبانة

 

تأتي رواية «ملاك النسيان» للكاتبة مايا هادرلاب، من بين الإصدارات النوعية والمتخصصة من روائع الأدب العالمي، التي عوّدتنا عليها دار المنى للنشر والتوزيع (السويد- عمّان). تقدّم الرواية الفائزة بالجائزة الألمانية «انجبورغ باشمان» جائزة برونو كرايسكي، صوراً كثيرة في وصف الألم الذي يحل بعائلة سويدية. يُمكن وصف هذه الرواية (248 صفحة، ترجمة الجزائري مدني قصري) بأنها رواية «شاعرية هائلة»، فهي كما جاء على غلافها الأخير «قصة ترويها طفلة بريئة، جمعت تفاصيلها من جدّتها التي نجت من معسكر اعتقال رافنسبروك، لتدخلنا إلى عالم لا نكاد نصدقه، لكنه عالم كان ولا يزال حقيقياً. عالم سلوفينيّي كارنثيا الذين يتأرجح مصيرهم عند حدود عالمين حُرموا من انتمائهم إليهما». من خلال شخصية الجدة، تصف الكاتبة برقّة وحسّ شعري، تجارب الرجال والنساء والأطفال، وصفاً يجعلنا نشعر وكأننا نعرفهم جميعاً، على الرغم من أنهم يحملون أسراراً ثقيلة. ويكتب النمسويّ بيتر هاندكه أنّ الرواية تحتفي بمجموعة من الشخصيات لا مثيل لها، هنا نجد «الجدّة التي لا مثيل لها، والوالد الفقير الذي لا مثيل له، والأموات الذين لا مثيل لهم، والطفلة التي لا مثيل لها».

وعلى رغم الروح الشاعرية الطاغية على السرد، فإنّ للرواية بعض ملامح الرواية الملحمية، على صعيد بناء الشخوص ومصائرهم، حيث الطابع التراجيدي الغامض يحكم مصائر البشر هنا، والعذابات تفوق القدرة على الاحتمال. وتبرز في الرواية أيضاً روح «مسيحانية» موغلة في الحب والتضحية، وللكهنة حضور مهم ضمن حركة المقاومة التي تتصدى للنازية والغوستابو.

ولعل شخصية الجدة وطبيعة حياتها، هما الأبرز لجهة طرافتها وقوّتها في آن، فهي المحور الأساس في الرواية، وهي أيضاً تكتسي ملامح الخرافة أو الأسطورة، رقم تسجيلها 24834، وهي بعد تحرير البلاد من معسكرات النازيين تقوم بتعليم الرقص، ولعب الورق، واستقبال الزوّار، وزيارة معسكرات الأطفال. إنها تصنع أسطورة الجدة بعلاقاتها الواسعة، فتأخذ القارئ عبر رحلة إلى معسكرات الاعتقال والسجون التي تحولت متاحف، وتروي قصص التعذيب وموت الكثيرين في السجن، وذلك ضمن سرد الذكريات الأليمة ولكن وسط أجواء الفرح. وسط ذكريات الموت تحضر القصائد السلوفينية، يحضر يوم الثامن من أيار والزيارات إلى الكنيسة للاحتفال بنهاية النازية، فنتعرف إلى «رومانا» الطفلة في العاشرة من العمر التي أمضت مدة في سجن كلاجنفورت الجيستابو، وفضلاً عن كونهم يعذبونها، كانوا يجرونها من شعرها لتشهد تعذيب أنصار المقاومة أمامها.

تصوّر الرواية ألم الجوع في المعسكرات عبر أقسى الصور: «في المعسكر كان الخبز هو كل ما يمكن أكله، وليس أكثر منه غذاء، قالت جدّتي وهي تشير بالإبهام والسبابة إلى حجم قطع الخبز الموزعة على السجناء، وكان هذا الخبز كافياً ليوم واحد وليومين اثنين أحياناً.».

ولعلّ ذكريات الجدة مع بيت جدّها الذي يعود إلى القرن الثامن عشر (1743)، هي من أكثر الذكريات إيلاماً، حيث تشاهد بأمّ عينها وروحها عملية تهديمه، مع الإبقاء على غرفة كبيرة تمثل الذكرى الأهم للجدة وصديقاتها، حتى لا تنتزع منها أثاثها الأجمل، وقصصها وتفاصيل حياتها الأغنى التي نجدها بهذه المرارة والشاعرية «لقد أمضت أمسيات جميلة في هذه الغرفة، تقول جدّتي، عندما كان المنزل ينعم بالحياة… ففي هذه الغرفة رقصنا وعملنا، تقول جدّتي، بل لعبنا المسرح وقرأنا القصائد الشعرية و… يبدو جزء من الحياة وكأنه ينسحب من جسم جدتي النحيل، ويرتفع إلى السقف مثل نسمة هواء». نتوقف مع صاحبة المشروع العربي في السويد، مُنى هِننغ زريقات، فقد شكّل مشروعها للنشر بالاتّجاهين، من العربية وإليها، حضوراً متميزاً على غير مستوى، وقد حصلت على وسام عالٍ وتكريمٍ من ملك السويد لجهودها في تعريف السويد والناطقين بلغتها بالأدب العربي، وتعريف العرب على الأدب السويدي خصوصاً والدول الاسكندنافية عموماً. فهي قامت ببناء مشروعها التنويري في صورة حديثة وجدية، كما أنها تبني جسراً للتواصل مع أدب الآخر وثقافته من خلال اختياراتها الأدبية للروايات العالمية المهمة، ولنتذكر منها «عالم صوفي»، «زيارة طبيب صاحب الجلالة»، «جنة وجحيم»، «الأطفال الزجاجيون»، «حراس الماء»، «في بلاد الغسق»، «جنان في بيت ليت»، «راسموس المتشرد»، «من ينجد برهان»، «قوس قزح»، «الطريق إلى القدس».

المصدر: الحياة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى