طالب الرفاعي: أوطاننا تعيش لحظة انكسار وعنف

الجسرة الثقافية الالكترونية
*أحمد زين
المصدر: الحياة
تفضح رواية الكاتب الكويتي طالب الرفاعي «في الهُنا» (دار بلاتينيوم) النزعة الطائفية، وتدين تقسيم المجتمع الكويتي إلى شيعة وسنّة. وتقدم الرواية الأصوات التي يزدري بعضها بعضاً، على أساس مذهبي، بصفتها أصواتاً طارئة، في تشديد على أن المجتمع في الكويت منذ نشأته عبّر عن قدرة على استيعاب وصهر الطرفين في خضمها، فهذ المجتمع «عاش طوال عمره في لحمة إنسانية رائعة بين السنّة والشيعة، وأي أصوات ترتفع بخلاف ذلك فهي أصوات ناعقة يجب التوقف عندها وفضحها وإدانتها». لا تنكر الرواية، وخلفها طالب الرفاعي، وجود الشيعي والسنّي في نسيج المجتمع الكويتي، لكن ما يخالف الواقع وجود نظرة دونية من أحدهما للآخر، «فهذا غير صحيح، والتلاحم والتعايش والتزاوج السنّي – الشيعي خير دليل على كذب ذلك». تلمس «في الهنا» موضوعها من خلال قصة الحب أو علاقة العشق التي تربط بين سنّي وشيعية، وما يحف هذه العلاقة من ممانعة ورفض يبلغ حد التطرف. ولئن انتهت الرواية والعلاقة لم تكلل بالزواج بعد، فالكاتب أبقى على النهاية مفتوحة، أو معلّقة، فإنه على الأقل قرع جرس الإنذار، محذّراً من خطورة التطرف الطائفي، عندما يتهدد حياة كانت تمضي يسيرة، في كنف التعايش والتسامح بين مكونات المجتمع.
لا يروق لطالب الرفاعي وصف تعاطيه مع قضايا الواقع في الكويت بـ «التعرية». فهو يرى أنه يكتب مشهداً اجتماعياً كويتياً – عربياً معروفاً وقائماً، بيد أنه مسكوت عنه أو مهمّش، «نمرّ إلى جانبه كل يوم وندير أوجهنا خوفاً من أن يصدمنا المنظر بواقعيته». صاحب «الثوب» يؤكد قناعة راسخة حيال الكتابة، بصفتها نظرة متأملة في المسكوت عنه، و «أنها صوتٌ عالٍ يصرخ بوجعٍ صادم ليثير الانتباه لظلم أو شأن إنساني مُهمَل». لذلك، هو ماضٍ في هذا التأمل، من دون أن يعتريه السأم من مقاربة الواقع نفسه، «فكل كتابة هي عيش جديد وخلق جديد، وكل كتابة هي مشي في دروب مغامرة مغرية». طالب يؤكد أن الكتابة قدرُ صاحبها، وأنه يعيش قدره ويتعايش معه. على أن الجرأة في تناول مواضيع طالما وصفت بالشائكة والإشكالية، ليست طارئة بالنسبة إلى الرفاعي، إذ سبق أن خاضت روايات له في قضايا أخرى مسكوت عنها.
الجسد واللغة ثنائية تحضر بقوة في الرواية، الجسد الذي يتمرد على قمع المجتمع، في حين بدت اللغة عاجزة عن مواجهة العنف المجتمعي. في هذه الثنائية لا تتراجع اللغة بمقدار ما تصبح وسيلة لذات عزلاء تواجه مصيرها وحدها، هذه الذات ليست سوى كوثر وقد خانها الأقربون بمن فيهم والدها الذي كان يدللها جاعلاً منها في ما مضى كل شيء في حياته. يقول صاحب «الكراسي» إن الناظر في الشأن اليومي، في أي مجتمع من المجتمعات، يرى حضور فعل الجسد وتفوقه على فعل اللغة في اللحظة والتو، «لكن الأكيد هو أن اللغة هي الأبقى في الزمن. حين يتمرد الجسد في المجتمعات المحافظة على تقاليد بعينها، فإنه يعبّر عن تمرده بطرق عدة، بعضها صريح وجريء وبعضها موارب، وفي كل الأحوال تكون اللغة – الفن هما رأس الحربة لذلك التمرد. فالكلمة الجريئة في الفن تمارس سحراً على العقل والجسد». في الرواية أيضاً نقترب من بطلة الرواية «كوثر» التي تركها طالب الرفاعي تسرد حكايتها بنفسها، بصيغة ضمير المتكلم. تكشف «كوثر» معاناتها ومأزقها، بما تبقى لها من أسلحة، سلاح اللغة الأهم، والذي أيضاً هو «جسر وصولها للآخر – القارئ. وإذا ما أخذنا حالة المجتمع الكويتي، فإن حرية الكلمة كانت على الدوام صريحة وغير مواربة ومحل افتخار بالديموقراطية».
مرة أخرى يحضر صاحب «رائحة البحر» باسمه ووظيفته في المجلس الوطني للآداب والثقافة وكتاباته وأصدقائه وملتقاه الثقافي الذي يقيمه بين حين وآخر. وأيضاً تحضر زوجته شروق وابنته فادية. كل ذلك يأتي في إطار كتابة «التخييل الذاتي»، التي يتبناها الكاتب وأنجز فيها عدداً من رواياته. «الكتابة اختيار، ونوع الكتابة هو الاختيار الأصعب». يقول طالب الرفاعي في حديث لـ «الحياة»، ويوضح أنه يوم اختار أن يكتب وفق مدرسة «التخييل الذاتي»، شعر بأنه عثر على صلته بالعالم، فكتابة الرواية اليوم، كما يراها هو، هي كتابة توثّق لتاريخ أي مجتمع من المجتمعات، وأن الكاتب ومعيشته وأصدقاءه وعمله جزء لا يتجزأ من ذلك التاريخ، «لذلك أحضر بسيرتي الذاتية الحقيقية وقناعاتي ومعها يحضر كل ما يحيط بي. بدأت بكتابة رواية التخييل الذاتي منذ رواية «ظل الشمس» عام 1998، مرَّ ما يزيد على العقد والنصف، وهذا كان كافياً لتوطيد علاقتي بهذه الكتابة، بل إنني أرى عدداً ليس بالقليل من الكتّاب، بدأ يسير على الدرب نفسه بشكل أو بآخر».
هذه المرة جعل الرفاعي زوجته تبوح ببعض الأسرار حول مزاجه وأحواله عند الكتابة، خصوصاً عندما يشرع في كتابة رواية جديدة، إذ يصبح، كما تقول زوجته في الرواية، أكثر حساسية، «أنا حين أكتب أنشغل بكتابتي عن كل شيء. ولأننا كلنا لسنا ملك أنفسنا، ولا نعيش في جزر منفصلة، فإن شيئاً من التشتت قد يصيبنا بالحساسية والعصبية». ويلفت إلى أن الرواية تحديداً «لا تحتمل انقطاعاً أو ابتعاداً عنها. لذا، أجد نفسي مستثاراً إذا ما انصرفت عن كتابة الرواية لأي شأن آخر. وهذا ما يجعل زوجتي شروق محقة تماماً في شكواها». ولعل من هنا تأتي نظرة طالب الرفاعي إلى الكتابة بصفتها خلاصاً روحياً، في عالم تهدده الصراعات والحروب والانقسامات، «القضية أصبحت أكبر من قضايا المجتمع الكويتي والخليجي الشائكة، فالعالم يعيش زمن «القرية الكونية»، وأوطاننا العربية تعيش لحظة انكسار وعنف ووحشية وتشتت مخيفة. صار من الصعب على الكثير من البشر التوازن على عارضة يومهم الشاهقة. وبالتالي تأتي أهمية الفن المبدع والحقيقي ودوره في إعطائنا القدرة على مواجهة واقع مشوّه، والقدرة على احتمال اختلالاته الموجعة، وتقديم تعزية لأرواحنا». تحل الكتابة في الرواية وعلى لسان طالب نفسه بصفتها خلاصاً للكاتب، «الذي يواجه جنون ووحشية العالم عارياً إلا من صراخ ووجع كلماته وإيمانه بالسلام والحرية والخير والعدالة والجمال».
لئن توزع صاحب «سمر كلمات» بين الكتابة الروائية والقصصية، وبين وظيفته مستشاراً ثقافياً لوزارة الإعلام الكويتية، وبين تدريس مادة الكتابة الإبداعية في الجامعة الأميركية في الكويت، وأيضاً دراسته العليا في إحدى الجامعات البريطانية، إضافة إلى إدارة «الملتقى الثقافي» كصالون ثقافي في بيته، فإن عزاءه أن كل هذه الهموم والمشاغل تدور حول محور أساسي هو القراءة والكتابة، والفعل الثقافي والأدبي، وتواصله مع الأدباء والمثقفين حول العالم، «كما أنني وبسبب من ظروفي الشخصية التي نشأت فيها، وكان جلها صعباً ومؤلماً، عشقت العمل وتعوّدت الجد والاجتهاد ما أمكنني ذلك. وتعوّدت أن أردد بيت الشاعر التركي المبدع ناظم حكمت: «الغد هو أجمل الأيام»، وأزيد عليه هامساً بنفسي: بلهفة سأنتظر اللحظة القادمة لأنها تحمل لي شيئاً مما تنتظر روحي».
في رواية «في الهنا» يواصل طالب الرفاعي عمله في إحدى إدارات المجلس الوطني للثقافة، في الواقع ليس من عمل يقوم به، كما يعترف هو بذلك، سوى الكتابة والقراءة وتأمل العالم من حوله، ومع ذلك يتسلّم راتبه كاملاً، الأمر الذي يثير، كما يذكر ذلك في الرواية، حسد أصدقائه من المثقفين الكويتيين والعرب. وإذا كانت هذه هي حاله اليوم، فإنه في ما مضى كان مديراً للإدارة الثقافية، وساهم مع آخرين من خلال العمل في هذه الإدارة في صناعة الزخم الثقافي الذي طالما تميزت به الكويت، على أن هذا الزخم تضاءل في الأعوام القليلة الماضية، هذا ما يراه كثر من المثقفين والمهتمين، وبدأ المشهد الثقافي يشهد ما يصفه البعض بالتراجع والنكوص عن الخط التنويري، خصوصاً مع تشديد الرقابة وتزايد موجة منع الكتب في معرض الكويت الدولي للكتاب. «إذا ما تحدثنا عن رأي وقناعات الأدباء والمثقفين العرب بتقهقر ونكوص وانكفاء دور الكويت الثقافي ممثلاً بالمجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، فهذا رأي أحترمه وأجلّه، ومؤكد أنه صحيح ولم يأتِ من فراغ». يقول طالب الرفاعي معلقاً على ما يحدث للثقافة في بلده، ويضيف أن المثقف العربي ولعقود كان يرى في المجلس الوطني منارة إبداع وعطاء عربي بارز، «وما قناعته ورأيه الآن بتراجع المجلس الوطني عن دوره الريادي التنويري ونكوصه إلا مؤشر مهم ودال يجب علينا في الكويت الوقوف عنده وتمحيصه. ولا أظن أن هذه القناعة بعيدة عن الواقع حتى ولو كانت مؤلمة».
ويفضّل صاحب «سرقات صغيرة» النظر إلى الثقافة ومؤسساتها في الكويت، انطلاقاً من اللحظة الراهنة وفي ضوء مستجداتها، أي من التغيّر الذي يحدث في العالم في شكل عام. «إصدارات المجلس الوطني: عالم المعرفة، وعالم الفكر، والثقافة العالمية، وإبداعات عالمية، وجريدة الفنون، ما زالت تصدر في وقتها، وما زالت تحاول جاهدة التواصل مع القارئ العربي، لكن الظرف العربي والعالمي تغيّر، وهذا بالضرورة يتطلب من الإصدارات أن تلاحق هذا التغيّر الإنساني. سلسلة عالم المعرفة الشهرية، صدرت عام 1979، وما أبعدنا عن ذلك التاريخ، حيث وجود الدكتور المفكر الكبير فؤاد زكريا على رأس المجلة، كما أن ثورة المعلومات ومحركات البحث ومواقع التواصل الاجتماعي، جعلت بإمكان أي قارئ في العالم أن يصل إلى المعلومة وهو في بيته، وهذا يفرض على السلسلة جهداً معرفياً وتقنياً خارقاً ومتجدداً، لكي تبقى محتفظة بوهجها وقارئها، والحال متكررة مع بقية الإصدارات. كما أن ظروف الشعوب العربية المؤلمة تؤثر في توزيع الإصدارات».
وهو يتأسف على إصدارات المجلس الوطني التي لم تعد حيوية وفاعلة كما في الماضي، وانتهى بها المطاف إلى أن تتوكأ «على بريق سمعتها السابقة»، مؤكداً حاجة هذه الإصدارات «إلى ثورة لتجديد عالمها شكلاً ومحتوى، وبما يتناسب ونبض اللحظة الإنسانية الراهنة».
على رغم كل ذلك، فإن طالب الرفاعي لم يفقد الأمل، ويؤكد أن المشهد الثقافي في الكويت لا يزال بخير، «إذا ما نظرنا إلى حماسة وعطاء الشباب، وقدرة بعض أعمالهم الإبداعية على نقش مكانها ومكانتها على الساحة الإبداعية العربية. كما أن هناك ظاهرة جميلة في الساحة الثقافية الكويتية تتمثل بتواصل مختلف الأجيال، ووجود ملتقيات ثقافية أهلية تقدم جهداً ثقافياً وإبداعياً ملحوظاً وجيداً».