طالب الرفاعي يشارك بطلته كتابة الحيرة

الجسرة الثقافية الالكترونية
*عبده وازن
المصدر: الحياة
يلقي الروائي طالب الرفاعي مهمة السرد في روايته «في الهنا» (دار بلاتينيوم بوك-الكويت) على عاتق الكاتب القرين الذي هو نفسه و»البطلة» نفسها التي يكتب هو روايتها جاعلاً إياها تشاركه فعل الكتابة بصفتها راوية. وهذه اللعبة الطريفة التي يؤديها الرفاعي إنما تهدف إلى الدمج بين زمن الرواية وزمن السرد (المتداخل)، وهما أصلاً زمنان متلاحمان بواقعيتهما التامة ووقائعهما، زمناً ومكاناً. يعترف الكاتب الذي يحمل اسم طالب الرفاعي أنه يكتب قصة كوثر البطلة التي تروي في الوقت نفسه قصتها، متقاطعةً وفق ما أراد الكاتب، مع ما يسرد هو، من يومياته التي يعيشها في مكتبه. وبينما يكتب قصة كوثر على لسانها (وبقلمه) يكتب أيضاً عن نفسه واصفاً مكانه و»طقس» الكتابة في هذا المكان.
لا يخفي الكاتب لحظة أنه طالب الرفاعي. يسمي زوجته (شروق) وابنته الصغيرة (فادية) ويتحدث عن ألم الديسك الذي يعانيه وعن وظيفته بتفاصيلها ومكتبه الذي أصبح محترفه الكتابي، وعن علاقته بالايميل والتويتر… ويسمي هذا المكان «الهنا» ويطلق عليه في أحيان «هناي» تودداً ويقول: «أنا سجين الهنا». والعجب أن علاقته بهذا المكتب تبلغ مبلغاً حتى ليصبح هو «المكان» في معناه الوجودي. لم يبق مجرد مكتب يجلس فيه الكاتب بل أصبح مختصراً لما يسمى إقامة وكتابة وحياة… ولعله في تسميته روايته «في الهنا» إنما شاء أن يرمز إلى المكان في تعدد دلالاته ومعانيه. «الهنا» هو المكتب، مثلما هو الشقة التي تختار البطلة العزباء العيش فيها وحيدة بعدما تركت بيت أهلها، وهو أيضاً بيت العائلة الشيعية التي رفضت تزويج ابنتها من رجل سني، مثلما هو الكويت البلد الذي ما زال يحافظ على تقاليده.
تتقاطع الرواية إذاً بين الكاتب والبطلة التي تسرد، وهما لا يتوانيان عن الالتقاء والاتصال الهاتفي، من دون أن ينقطع فعل السرد. واللافت جداً أن البطلة – الراوية إنما تسترجع كل مروياتها استرجاعاً من الذاكرة القريبة والبعيدة قليلاً. ولعل الحافز على هذه الاستعادة هو انتظارها ذات صباح، مجيء الحبيب (مشاري) الذي أصبح «عشيقاً»، لتذهب معه إلى قصر العدل لعقد القران الشرعي بعد طول انتظار. مضى نحو ثلاثة أعوام على تعرفها إليه، ومضى نحو ستة أشهر على انتقالها إلى شقتها وبات الزواج لازماً، لا سيما بعدما فض مشاري بكارتها محققاً رغبته، هو الشخص المرموق، المتزوج والأب لثلاثة أطفال.
استيقظت باكراً في هذا اليوم الموعود. وكان طبيعياً أن تشعر أن الصباح يمضي بطيئاً. الساعة التاسعة ستحدد مصيرها وتكشف حقيقة النية التي يبيّتها مشاري الحائر والضائع، مثلها هي تماما. «اليوم يوم زواجي» تقول. إنها على أحر من الجمر، تأخذ سيكارة وتدخنها على الريق وتنتظر. الوقت طويل مع أنه لا يتخطى ساعات ثلاثاً. ولم يكن عليها خلال هذه الساعات إلا أن تستعيد حياتها هي ابنة الثلاثين: «لا أدري لماذا تأتي كل هذه الذكريات إليّ في هذا الصباح؟». ذكريات لا تني تتوالى. كأنها تعاود النظر في ماضيها القريب وحاضرها اللذين تحبهما ولا تحبهما، لتحاسب العائلة ونفسها هي، مستعرضة الأخطاء التي ارتُكبت. ومن خلال ما تسرد لا تبدو كوثر بعيدة عن أن تكون بطلة متمردة ولكن على قدر من الرومنطيقية. صبية في الثلاثين تتمرد على عائلتها الشيعية المحافظة والثرية، تحب رجلاً سنياً، متزوجاً ورب عائلة، ثم تنتقل للعيش وحدها غير مبالية بالتقاليد الصلبة ولا بموقف أهلها الذين لم يحتملوا هذا التصرف الجريء جداً، لا سيما بعد وفاة والدها. لم تبال حتى بتهديد عمها باقر، المحافظ جداً والذي لا يهاب ارتكاب الجريمة دفاعاً عن شرف العائلة.
لم يفرض الكاتب وجهة نظره على بطلته، ولم يسبغ عليها ملامح غريبة عنها، بل شاءها حقيقية، متناقضة، قوية وضعيفة، جريئة وعاطفية ومدماعاً سخية الدموع، إنسانية وصاحبة ضمير، تلوم نفسها دوماً على إيذائها عائلة بكاملها لو تمّ زواجها من مشاري. تسلّم كوثر جسدها لحبيبها بعد كثير تمنع، وعندما يختلي بها في لندن ويسألها إن كانت لا تزال بكراً تغضب بشدة وفي ظنها أنه يعيّرها بشرفها. لكنها لم تلبث أن استسلمت له كلياً، هي العاشقة التي تحب بجوارحها وقلبها، ففضّ بكارتها. كانت ترفض في الكويت أن يتمادى في ملامستها وتقبيلها حتى في مركبه البحري، أما في شقته البريطانية فوافقت، ومارسا الحب أمام صور زوجته وأطفاله المعلقة على جدران الشقة: «على سريرك في غرفة نومك وبينما زوجتك تطل علينا من إطار صورتها المذهب، حضرت بي شهقة روحي الأولى، وانبثق خيط الدم الذي بقي محبوساً لما يزيد على الثلاثين سنة».
أما الخيبة التي عاشتها فهي موقف أبيها السلبي من زواجها برجل سني، متزوج وأب. كان أبوها مرجعها في الأسرة وكانت هي فتاته الأثيرة والأقرب إلى قلبه، يحبها أكثر من شقيقاتها الأربع ولا يرفض لها طلباً. كان والدها أشبه بالمثال الذي ترنو إليه، هو المثقف والقارئ النهم وصديق الكتّاب والفنانين، القومي العربي والليبرالي الذي درس في الجامعة الأميركية -بيروت، يحب عبد الناصر ويميل إلى الوحدة العربية. وعندما اندلعت ثورات الربيع العربي تحمّس لها ووجد فيها بارقة أمل وراح يتابعها عبر الشاشات الفضائية، وكان يردد: «أخيراً تحركت الشعوب» و «المواطن العربي كسر جدار الخوف». وعندما يصل الإخوان المسلمون في مصر إلى رأس السلطة يتشاءم معتبراً أن الأصوليين «سرقوا الثورة». ويزداد يأسه وهو متسمر أمام الشاشات: «نحن ندخل نفقاً مظلماً»، يقول لابنته، ويضيف: «ستجتاح بلداننا الفوضى ويلتهم العنف الأصولي والدم أيامنا القادمة». ينكفئ الأب على نفسه خائباً مما آلت إليه الثورات وينقطع عن أصدقائه وعن الجلسات الديوانية ثم يموت جراء نوبة قلبية ألمت به هو ابن الخامسة والستين. قد يكون من المبالغة دفع الأب إلى مثل هذه الحال من الانهيار والسقوط في العزلة نتيجة ضياع فرصة الربيع العربي، لا سيما أن هذا الأب رجل ثري ويعيش حياة هانئة. وهو كان رفض أن تقيم ابنته كوثر في شقة وحدها ورفض أيضاً زواجها من رجل سني متزوج وأب، على خلاف موقفه الداعم قبل أعوام، لشقيقته ألطاف (عمة كوثر) في زواجها من رجل سني على رغم اعتراض الأسرة كلها. وعندما سألته ابنته لماذا هذا الرفض، أجابها: «بعد موتي أنت حرة اعملي ما تشائين». وبعد وفاة والدها فعلت كوثر ما شاءت أن تفعل وتحررت من سلطة العائلة وصراخ الأم وتهديدات عمها. لكنها لم تستطع أن تتحاشى الأسى والحزن عندما قصدت بيت العائلة لتنقل إلى شقتها أغراضها وكتبها وتختار كتباً من مكتبة أبيها وبعضاً من اللوحات التي كان يحبها. فهي على رغم نزعتها التحررية متعلقة ببيت الأهل وذكرى الطفولة.
يطول هذا الصباح الذي تنتظر فيه كوثر قدوم مشاري ليذهبا إلى قصر العدل ويعقدا قرانهما المنتظر الذي يحدد مصيرهما، الشخصي والمشترك. بقي من موعد وصوله ساعتان كي يأتي، ولكن تنتهي الرواية من غير أن يعلم القارئ إن كان سيأتي أم لا. البطلة نفسها التي تتولى فعل السرد تقول: «لا أعرف كيف أنهي قصتي مع مشاري؟». ويسأل الكاتب بدوره: «كيف ستكتب كوثر نهاية قصتها؟» وكأنه شاء ألا يتدخل في هذا الأمر تاركاً الحرية للبطلة في أن تختار النهاية. ويقول في هذا الصدد: «كوثر ومشاري، لا أعلم ما آلت إليه علاقتهما، ولن أكتب حرفاً واحداً إضافياً عما خطته هي عن نفسها». إلا أن الرواية تكتمل بعدم اكتمالها، وتظل نهايتها مفتوحة، فلا الكاتب الضليع في الأمر قادر أن ينهيها ولا الراوية الضائعة والمنهكة قادرة أيضاً. لكنّ عدم انتهاء الرواية لا يعني أن الكاتب قصد فعل التشويق على طريقة الروايات الشعبية بل هو سعى إلى جعل الخاتمة مجهولة توكيداً منه على قدرية هذه العلاقة الشائكة التي تختصر في جوهرها مسألة وجودية تعانيها الجماعة ويقاسيها الفرد في ظل تقاليد قاسية وواقع يدعو إلى الانفصال والانفصام.