«طفلة» موريسون حالكة السواد

الجسرة الثقافية الالكترونية

*مودي البيطار

 

تستهل توني موريسون روايتها الجديدة بعبارة «دعوا الأطفال يأتون إلي ولا تمنعوهم» من إنجيل لوقا». كرّست الكاتبة الأميركية، الحائزة على نوبل في 1993، أدبها لإدانة العنف ضد الأطفال، وفضحت ممارسات عرقها الواحد ضد الآخر بما في ذلك المحارم. الكاتبة الهادفة اجتماعياً تركّز ثانية على الضرر الدائم للإساءة الى الأطفال، وتقول إن ما نفعله بالأطفال مهم، وإنهم قد لا ينسونه إطلاقاً. في «فليساعد الله الطفل» الصادرة في بريطانيا عن دار شاتو أند وندوس تُفاجأ سويتنِس بولادة طفلتها بسواد منتصف الليل، سواد سوداني لا وجود له في أسرتها وأسرة زوجها. انتمى كلاهما الى العرق الأسود، لكن بشرتهما كانت قانية كجلد سائر أفراد الأسرتين. تزوجت جدّتها رجلاً أبيض ظنّها من عرقه، وأعادت رسائل الأسرة من دون فتحها لكي لا تفضح أصلها. كان يمكن والدتها أن تنكر هويّتها أيضاً، لكنها لم تفعل، ودفعت الثمن. خدمت أسرة بيضاء أعدّت طعامها، وفركت ظهور أفرادها في الحمام، والله يعلم ماذا أيضاً، لكنها لم تستطع أن تضع يدها على الإنجيل نفسه الذي استخدموه حين تزوجت. خصّصت الإدارة إنجيلاً آخر للسود لكي لا تدنّس أيديهم البيض وإلههم.

فكرت سويتنِس بإعطاء لولا آن لميتم، وطلّقها زوجها لاعتقاده أنها خانته. منعتها من مناداتها «ماما» وشبّهت عينيها السوداوين الزرقاوين بعيون الساحرات. كان سواد لولا آن صليباً ستحمله طوال حياتها، وعاملت الأم طفلتها بقسوة بالغة متعلّلة بأنها تحضّرها لعالم ستكون فيه آخر من يوظّف وأول من يُطرَد. اشمأزت منها وامتنعت عن لمسها في إعلاء ومماهاة للجنس الأبيض الذي احتقر أمها.أغضبت الطفلة سويتنِس عمداً لكي تضربها وتحس بلمستها. لكنها ضربتها مرة واحدة حين لوّثت السرير بدم الحيض الأول، وتخفّفت لولا آن من صدمة الحدث الذي لم تحضّرها أمها له بلمستها المرتجاة. تظاهرت سويتنِس بأنها بيضاء لأن لونها سمح لها بذلك، وسلكت كالبيض مع طفلتها السوداء في إنكار مزدوج للهوية. حين اتُهمت معلمة للطفلة، صوفيا هكسلي، بالاعتداء على تلامذتها، انضمّت لولا آن الى الجوقة وشهدت بثقة ضدّها في المحكمة من دون أن ترتجف أو تبكي كسائر أترابها. شعرت سويتنِس بالفخر كالطاووس، وأخذت يد ابنتها بيدها للمرة الأولى. يظهر صوت الأم ثانية وهي في الثالثة والستين، وتعيش في دار رعاية بفضل ابنتها التي تعاملها بالمثل. تنفق عليها لكنها تحرمها الإشباع العاطفي وتمتنع عن زيارتها. تندم سويتنس أحياناً، لكنها تعتقد أن لولا آن تدرك الآن، وهي في الثالثة والعشرين، أسباب قسوتها عليها.

 

سواد رائج

تغيّر لولا آن اسمها الى برايد من اسم العائلة برايدوِل، وتصنع هوية أخرى لشابة واثقة، ناجحة. بعد مقابلتها المهنية الأولى الفاشلة، تستشير خبيراً في الصورة فينصحها بارتداء الأبيض ومشتقاته فقط لتأكيد سوادها الذي بات رائجاً في بداية الألفية الثالثة. تصبح فهداً في الثلج، وتلاحظ الإعجاب والجوع في العيون. تجد وظيفة في شركة تجميل وتُرقّى بسرعة لتصبح مديرتها الإقليمية. تواعد مغني راب ورياضيين وطامحين الى النجومية في هوليوود، لكنها لا تجد لديهم العطاء الذي تبحث عنه، أو اهتماماً بما يتعدى العلاقة الجسدية والتسلية خارج البيت. حين تلتقي بوكر ستاربرن تتعدى العلاقة جسدها، الذي يحوّل كل بقعة منه لمعة برق، الى الثقة التي تدفعها الى إخباره عن طفولتها. يقول معزياً إن لونها مجرد لون وليس نعمة أو لعنة، لكنه يهجرها فجأة بعد ستة أشهر قائلاً باقتضاب إنها ليست المرأة التي يريدها. تردّ بغباء :»لا، لست كذلك» وتنتظر عودته، ثم تفكر أن علاقتهما لم تكن خاصة، والجنس فيها خلا من الخطر الخفيف الذي أحبته. تشك في نفسها، وتتساءل إن لم تكن جميلة أو مثيرة ما يكفي، ثم تغضب وتفكر أنه استغلّها لأنها ملكت مالاً ومؤخرة. كان وسيماً باستثناء ندب صغير على شفته، وآخر بشع من حريق على كتفه. لم تهتم ببطالته، أو مخالفته المحتملة للقانون. احترمت تكتّمه لاعتقادها أنه يكره الفضول، واشترت له قمصاناً جميلة لم يلبسها.

هل كان هذا من دفعها الى القول في المحكمة إنها شاهدت صوفيا هَكسلي تعتدي على رفاقها؟ ينصحها بوكر بنسيان الماضي والتعلم مما لا تستطيع إصلاحه، ثم يلقي قنبلته ويرحل. تجد في الحقيبة التي تركها بوقاً وكتبَ شعرٍ أحدها بالألمانية لهاس، وتكتشف جهلها له. تعرف أنه درس في الجامعة وفكر بأشياء لم يفصح عنها، وتقرر البحث عن الشخص الوحيد الذي وثقت به وأحست بالأمان معه، وإذا به يشتت حياتها ويعيدها ضعيفة بهجره. يتركها بوكر في اليوم الذي تنوي بغباء لقاء هكسلي إثر إطلاقها من السجن لإعطائها خمسة آلاف دولار (مئتي دولار عن كل عام في السجن) وبطاقات سفر وحقيبة ثمينة ملأى بمستحضرات التجميل من شركتها. حين تذكّر برايد معلمتها السابقة بنفسها تتحول السجينة الوديعة تمساحاً هائجاً، وتضربها وترمي هداياها وحذاءها الفاخر.

 

واقعية سحرية

تتابع برايد عملها في البيت وتحس بكل ما تأكله حامضاً ما عدا الحامض نفسه. تصعق حين تلاحظ اختفاء شعر جسدها وصدرها الجميل والثقبين في أذنيها في انعطافة واقعية سحرية، ومجاز لعودة الطفلة الهشة، التي تحدّد وجودها بحب الآخرين. تربط التغيير برحيله، ولا تعرف بعد هجوم هكسلي عليها أيهما أسوأ: أن تُرمى كالفضلات أو تُجلد كالعبدة. تقود سيارتها الجاغوار مئات الأميال في طريقها اليه، وتكسر قدمها حيت تصطدم بشجرة. يؤويها هيبيان صامدان في العقد الخامس، يدخّنان الماريوانا، ويحتقران المال، ويعيشان في بيت بدائي يخلو من الأدوات الكهربائية ووسائل الراحة. تعيش معهما رين القوية، الواثقة التي أجبرتها والدتها، بائعة الهوى، على النوم مع روادها، وطردتها حين عضّت أحدهم. تعثر على بوكر في بلدة ويسكي الصغيرة حيث عمل في قطع الأخشاب وكسر يده، وعاش قريباً من خالته كوين. ترى عينين تحييهما الكراهية وتميتهما، وتصفعه حين يطردها.

عبد بوكر شقيقه الأكبر آدم الذي كبره بعامين، وفرح بصباحات السبت التي اجتمعت فيه الأسرة لتناقش الجديد الذي تعلّمه الأولاد ومشاكلهم. لم تملك الأسرة جهاز تلفزيون لكن أفرادها قرأوا الكتب والصحف، وعوّضوا بوجبات نهاية الأسبوع الباذخة عن التقشّف في سائر الأيام. ساد الصمت المنزل حين اختفى آدم أشهراً، وكان على بوكر الذهاب مع أبيه للتعرّف الى بقايا جثة أكلتها الجرذان ونخرتها الديدان. استعادت الأسرة حياتها السابقة بعد الجنازة التي حضرها والد الأم. بنى ثروة من تزعّمه عصابات الأزقة الفقيرة، ونجح في كتم احتقاره لأسرة ابنته الفقيرة. شعر بوكر أنه مات مع شقيقه، وغضب من سعي أهله الى النسيان، فنصحته خالته كوين بالتمسك بآدم الى أن يطالبه الراحل نفسه بتركه يرحل. كان في الرابعة عشرة حين ألقي القبض على القاتل الذي بدا «ألطف رجل في العالم» لكنه اعتدى على ستة أطفال وقتلهم، وحفر أسماءهم وشوماً على ذراعه.

دفعته مأساة آدم الى ضرب رجل يتعاطى المخدرات مع شريكته في السيارة، ويعرّض طفلته لتأثيرها. غضب من رغبة برايد في مكافأة معتدية على الأطفال، وهو يجهل أنها اتهمّت هكسلي، ابنة العشرين، زوراً مع الآخرين وساهمت في تدمير حياتها. صعقته برايد بجمالها حين رآها مع رفيقة لها على الرصيف، بثيابها البيضاء وشعرها الذي بدا مثل مليون فراشة سوداء تنام على رأسها. لم ينتظر رفيقيه ليعزف معهما كالعادة على الشارع، وعزف البوق وحده تحت المطر وهو لا يزال مسحوراً بها يشمّ رائحة الليلك في الهواء. أحس بالرغبة حين تذكّر عينيها وشفتيها، وبدأت الكآبة المزمنة من موت آدم تتبدّد. بعد أسابيع رآها في حفل جاز، فأحاطها بذراعه ورقص معها. شعر بسلام داخلي حين نام معها، وخلت علاقتهما من النواقص. أحب لامبالاتها بحياته الخاصة، وتمتع برفقتها سواء خرجا أو بقيا في البيت. لكنه لم يفطن الى حياته المعلقة الى أن طاردته، ودفعت خالته كوين الى القول إنه يتمسّك بآدم سبباً للفشل والشعور أنه أفضل من الآخرين.

تتكرّر الإصابات الجسدية والدمار النفسي والموت في «فليساعد الله الطفل» التي لا تتعدّى 178 صفحة. الى آدم ورين والطفل الذي تراه لولا آن يتعرّض للاغتصاب، هناك بروكلين البيضاء التي يعتدي عليها عمها، وهانا، ابنة كوين، التي قد يكون والدها اغتصبها. أهل هكسلي يمتنعون عن زيارتها في السجن، وأسرة بوكر تعاديه ولا تحاول أن تفهم سبب تعلّقه بشقيقه. تمتنع موريسون عن تحديد عرق المسيء أحياناً في إدانة شاملة للفعل نفسه، ولغتها محايدة، ساخرة، متينة تخدم بأمانة المواضيع نفسها في روايتها الحادية عشرة.

المصدر: الحياة 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى