طقس الاحتضار في نص أميركي

الجسرة الثقافية الالكترونية
*راغة طراف
المصدر: الحياة
تتصدر «هايزل» وحبيبها «أغسطس» المشهد المأسوي الحزين. إلى جانبهما «هناك» باتريك المصاب بسرطان الخصية، والذي يدير مجموعة دعم لمصابي السرطان. وكذلك «إسحق» صديق أغسطس، العابث، الناقم، الذي سيصبح ضريراً بسبب نوع من السرطان يضرب القرنية. يتفاوت حضور هؤلاء «الأبطال» في زمن الرواية. باتريك، مثلاً، يشغل حيزاً وجيزاً بل عابراً فيه، لكنه لا يسقط من صف الشخصيات الرئيسة، لأنه مريض مثلهم.
نحتاج إلى طاقة نفسية كبيرة ونحن نصغي إلى «هايزل»، المراهقة المصابة بسرطانَي الرئة والغدة الدرقية. تساعدها والدتها من سن مبكرة على التعايش الصبور مع التهديد الوجودي الملازم لها. هذه الفتاة ذات الستة عشر ربيعاً هي الراوية الذكية، والساخرة، وهي الشخصية الرئيسة التي تبوح بألمها وألم بقية «أبطال» رواية «ما تخبئه لنا النجوم» التي كتبها الأميركي جون غرين في عام 2012 وعُرِّبتْ ونشرت عام 2015 وصدرت عن شركة المطبوعات للتوزيع والنشر – بيروت.
لا تمتد مساحة الرواية إلى أبعد من منزل «هايزل» حيث النوبات المرضية المفزعة، وسرير المستشفى الذي تقصده. الرحلة التي قامت بها مع حبيبها إلى هولندا لم توسع هذه المساحة. لأن قنينة الأوكسيجين التي تحملها الفتاة هي جغرافيا الرواية الفعلية، كما هي سبب «حياة الرواية». عندما تنجح «هايزل» في النشوق من جوف هذه الكتلة المعدنية الهامدة، وتزول عنها نوبة الاختناق، نشعر أن زمن الرواية يطول.
يزداد التوتر مع كل حدث تشهده الرواية، لأن الإيقاع الزمني لحياة «البطل» منحبس أو معلق بالحدث نفسه، وليس بتسلسل أحداث الرواية. هذا الإيقاع الهش أو الضئيل لفرص نجاح «البطل» في مصارعة الموت، يغيّر سلوكنا المعتاد مع الروايات. فلا نقدر على منع أنفسنا من الغرق في التفاصيل الحميمة التي تسردها «هايزل». إنها تفاصيل رواية عن الاحتضار.
كلما قرأ المرء كتيّباً ما عن السرطان، أو بحثاً حوله في الإنترنت، يلاحظ أنهم يصنّفون الاكتئاب على أنه تأثير جانبي لهذا المرض. تقول «هايزل». وقد رأينا ذلك في العبثية المفرطة التي تغمر لقاءات أغسطس وإسحق. لكنّ هول الموت الذي يعصف من حولهما، لم يحرمهما الشعور بالحب. عندما تنضم «هايزل» إليهما يبدو الحب وكأنه اقوى من الموت.
حتى أم «هايزل» كانت تظن أن ابنتها مصابة بالاكتئاب بسبب السرطان. لكنّ الواقع مختلف. فالابنة التي تكابد مشقة اختبار الحب مع أغسطس، «تكشف» أن اكتئابها ليس تأثيراً جانبياً للسرطان، بل لحال الاحتضار الذي يلقي بثقله على نفس المريض. في الرواية يتغير معنى الموت المحتم من بعد عمر طويل، الذي يتقبله الناس، عادة، ويسلّمون به. يفاع سن الشبان المحتضرين، يمرّغ المسار الدارمي لـ «هايزل» وأصدقائها بالسواد الكالح، حتى قبل أن نصل إلى لحظة وفاة أغسطس الذي تآكل جسده بسرطان العظم.
تمنح الرواية القارئ العربي فرصة الإطلاع على نص «نموذجي» من نصوص أدب المأساة الفردية. شخصيات الأهل التي تذكّرنا بنظريات الحب العلاجي، تبقى هامشية طيلة الرواية. وهذا أمر مفهوم. فالمريض هو الموضوع، وهو محور الأحداث. تنتهي بنهايته. جهود الأهل والأصدقاء لتحسين النهاية لا تغير خاتمتها. ولذلك، أو ربما هذا ما يميز أدب الاحتضار عن أدب المأساة الفردية.
في نصوص أدب الاحتضار لا نرى سوى النزع الأخير. لكنّ جدلية الحياة والموت تبقى حاضرة، بالمعنى الفردي، الذاتي. يفتح السرد «الهايزلي» على ملمح فلسفي عن قوة الإنسان وضعفه. حينما يستلقي الحبيبان تحت ضوء النجوم، لا يغيب الشقاء عن كيانهما. لكن صورة الجسدين المتقاربين، تظهر قوة الأمل في نفوسنا، وقدرة البشر على التكيف. فإننا في لحظات الاحتضار لا نيأس من انتظار الغد لنمشي في بداية جديدة.
لم يتوافر لدينا بحث كاف عن تجربة الكاتب الشخصية. هل كتب في هذا الموضوع بناء على تجربته الخاصة التي تمسّه او تمسّ أحباء قريبين في محيطه، أم بناءً على تجارب اجتماعية مختلفة؟ وهذا الاختلاف قد يحدِث فرقاً. فالقارئ يفاجأ بأن جون غرين قد شرخ المسار الدرامي للرواية بتوريط النص في نقاش سياسي عن تاريخ الحرب العالمية الثانية. لا نفهم لماذا كرّس الكاتب خمس صفحات (211-216) لزيارة «هايزل» وحبيبها إلى متحف كاتبة يهودية في هولندا.
نعثر في الرواية على جزء من قلق الإنسان الوجودي وهو قلق يمسّ كل عاقل تقريباً. وقد يكمن هنا حافز الإقبال على هذا النوع من الأدب. بأي حال، فالكتابة عن هذا القلق، أي عن شؤون الحياة والموت، أو إبداع نص روائي في أدب الاحتضار، هو تحدٍ هائلٍ في كتابة … النهاية.