طلال معلّا في بيروت.. البحث عن هدف يكون بأن نفقده

الجسرة الثقافية الالكترونية
سامر محمد إسماعيل
بعد معرضه الأخير في أيار 2015، «انتهى زمن الصمت» (دمشق)، يُقدّم طلال معلّا (مواليد اللاذقية، 1952) في بيروت معرضه الأحدث «أرى الناس»(*)، مشتغلاً فيه على الحالة الوجودية للإنسان السوري في زمن الحرب، بعد عشرات المعارض التي أقامها في روما وباريس وبرلين ودبي والقاهرة وبوسطن.
بين معرضه الدمشقي الأخير ومعرضه البيروتي هذا، يتحدث معلا لـ «السفير» قائلاً إنها المرة الأولى التي يُقيم فيها معرضاً فردياً له في بيروت: «تربطني بالمدينة صداقات عميقة مع نقّاد وفنانين مرموقين أتوق إلى رؤيتهم. معرضي الأخير إعلان عن أفول زمن الصمت الذي امتدّ أعواماً طويلة. قدّمت 11 معرضاً شخصياً في أكثر من مدينة في العالم، ليأتي زمن المواجهة كحقيقة للوجود الإنساني. في «أرى الناس»، هناك رغبة في التصريح عن أني أرى ما يصيب الناس نتيجة هذا الهذيان الكبير الذي يصيب العالم من جهة، ويصيبنا نحن كسوريين من جهة أخرى». امرأة في قارب، والأزرق يحيط بها وبمن معها: صورة اختارها صاحب كتاب «بؤس المعرفة» (دمشق، 2012) لتكون عتبة بصرية على بطاقة الدعوة الخاصة بمعرضه: «الهجرة تأخذ حيزاً من المعرض. ما نراه اليوم من ابتكاراتٍ للهروب الإنساني نتيجة سيطرة الخوف على ضمائر الناس ودواخلهم، يدفعني إلى فهم ما يجري. مهمة الفنان ليست فقط خلق شخوص ملغزة تحمل مفاهيمها المثقلة بالمعنى وحسب، بل لتكون هذه الأعمال قادرة على مواجهة المستقبل. «أرى الناس» بمعنى أني أعيش إشكالية يعيشها الآخرون بحالاتهم الصعبة والمريحة. أنا لستُ بعيداً عنهم، مع أني أقدّر البرج العاجي جداً، وأهتم به. الفن حالة فردية أساساً. إذا وصِف أنه برج عاجي فليكن، لكن لا وجود لهذا البرج العاجي في زمن الحرب التي نعيشها اليوم، وهجوم الهمج على القيم الإنسانية بحالاتها كلّها».
يفرّق طلال معلاّ بين مفهومي الناس والبشر في أعمال معرضه الجديد، كما يفرّق في لوحاته بين القناع والرأس، وبين الجسد والجسم، وبين الحركة الخفيفة والتعبير العميق للوجه الإنساني. هذه المتناقضات تعبيرات يفسّر من خلالها صاحب «أوهام الصورة» (الشارقة، 2001) كيفية رؤيته الناس: «الوجه كالمرآة يفشي ماهية الشخص، أكثر من أي جزء آخر من الجسد. عندما يختفي كائن إنساني في الموت، يفقد وجهه في الوقت نفسه الذي يفقد فيه الحياة. أحياناً، أوكل للون هذا الدور، وأحياناً أخرى للحركة، وأحياناً ثالثة أعتمد غياب الرؤية المتمثّلة في انعدام اليدين من جسم الشخصيات التي أرسمها، كدلالة عن عدم القدرة على التعبير».
عودة إلى اللوحة
حقّق معلاً جزءاً من أعماله السابقة عبر الـ «فيديو آرت» والتجهيزات، متجاوزاً الحالة التقليدية التي يعمل بها الفنانون لإنتاج التصوير في المنطقة العربية. اشتغالاته كثيفة عبر إدارته عشرات المراكز والمؤسسات والمعارض التشكيلية الدولية والعربية، وتحقيقه العديد من المؤلفات النقدية والبحثية عن عالم الصورة وسلالاتها، بين التراث والحداثة. ظروف الحرب التي يعيشها بلده منذ 4 أعوام لم تسمح بتكراره هذه التجربة، فإذا به يعود إلى اللوحة كبيتٍ لمخيّلته، آخذاً صورةً لبشر الحرب عبر 35 لوحة أكريليك على قماش 60 بـ 90 سم. يقول صاحب «أحوال الصُور» (الشارقة، 1999) إنها «مكتسبة، كون العملية التصويرية تتطوّر من بعضها، سواء من تجربتي أو من تجربة غيري على التشويه. العمل على التشويه وإيجاد بدائل له أمران مطروحان في التعبيرية المعاصرة، لذلك تبقى اللوحة توليداً للمعاني. إذا كان هناك هدف نحاول أن ننشده من خلال هذه الأعمال، فهذا يعني أنه لا يوجد هدف أساساً. البحث عن هدف يكون بأن نفقد الهدف، لذلك، التوجه بالأعمال مختلف من عمل إلى آخر، سواء كان عن الحالة الداخلية للإنسان، أو رواية ما نرى من دمار وخراب حول هذا الإنسان».
اشتغل صاحب «العالم الضال» (الشارقة، 2003) على معرضه بين عامي 2014 و2015، بعد إحراق مرسمه في بلدة قدسيا (قرب دمشق) في العام 2013. يومها، خسر نحو 90 لوحة بنار الغلاة الذين أحرقوا محترفه المشترك مع شقيقه أحمد معلّا. يقول: «هي محاولة للتعويض عن خسارتي عشرات الأعمال التي أنجزتها منذ أعوام طويلة. قد يكون ذلك دافع للإنتاج أكثر من السابق، وتأكيد على أني موجود وأحاول التعبير تماماً عما يجري حولي. هي قضية ذاتية عبر تشكيلٍ يمكن إثقاله بالمعنى».
شبكات
المعنى الذي ينشده طلال معلّا باشتغاله على التشويه انعكاس للجانب السلبي من الحياة على الفن. في محترفه الخاص، يُركّز على انتهاكات القيمة الإنسانية، ما يبرّر وجود الإنسان دائماً في كادره كموضوع للوحاته: «تصريحٌ عن الخوف الكامن في داخلي، ليس من الموت أو المواجهة، بل من أن يسود هذا الشكل الهمجي بدلاً من قيمة الجمال الأساسية التي ننشدها». لا يمكن الحديث عن حدود أو فواصل في تجربته. فالمعنى في أعماله لا يرتبط بشكل بل بمادة وتكوينات كبنية أساسية لسمات لوحة سورية معاصرة. لكل لوحة شبكة. يقول صاحب «المؤتلف والمختلف» (أبوظبي، 2007): «هذه الشبكة تضيق أو تكبر تقاطعاتها، ما يعطي نكهة سورية لهذا العمل أو ذاك. هذه الشبكة لا يمكن التقاطها بتجربة فردية واحدة. اليوم، إذا أردنا مقارنة شبكة اللوحة المغربية بشبكة اللوحة المصرية أو السورية، ستفرز ببساطة اللوحات إلى كلّ فئة من هذه الفئات. الكلام هنا عن شبكات، والمعايير التي تُبنى عليها هذه الشبكات مرتبطة بالقيم الإنسانية للفنان الذي ينتمي إلى مكان أو فلسفة معينة. بمعنى أن الشبكة في المغرب تكون وفق قربها من أوروبا وارتباطها بالجنوب الأفريقي، وبالتالي ستكون شبكة مركّبة على تقشّف العمارة في المغرب أو شمال أفريقيا. على هذا الأساس، سيسود التجريب على سواه من الأساليب الفنية المغربية. أما في سورية، فالشبكة مرتبطة بحالة تشخيصية كانت موجودة أساساً في تاريخ هذه المنطقة، كون سوريا مولّدة هذا الشكل الفني. بالتالي، ستلاحظ أن الوجه الإنساني يعمّ أكثر من غيره في الشبكة السورية. هكذا، يمكن أن نقرأ كيف تعبّر هذه اللوحة عن منطقة أو جغرافيا أو شعب أو أمة، تماماً كالموسيقى، أو كملامح السينما حين نفرّق بين سينما يونانية وأخرى إيرانية مثلاً».
«لا يمكن إلا أن نكون غامضين في أعمالنا الفنية». يشرح معلّا مضيفاً: «في جيل واحد تقريباً، قفزت الحضارة الإنسانية قفزة غير طبيعية مع الثورتين الإلكترونية والرقمية، بينما التاريخ البشري برمّته استغرق الزمن كلّه، وبالتالي لا يمكن للإنسان أن يفهم في جيل واحد ماذا يفعل. أعتقد أنه من أولى الأولويات معرفة أنفسنا في هذه المرحلة، حتى نعرف ماذا ننتج. بالتالي، الغموض الذي يمارسه الشاعر أو الفنان غموض قسري، كونه لا يستطيع أن يستوعب التوليد الذي تقدمه الحضارة، أو المبتكرات الجديدة التي يعيش في ظلها، إذ إن هناك غموضاً في استيعاب ما يجري بصورة عامة. حين نعكس هذا الأمر على الفلسفة الإنسانية، أو على المذاهب التي تتقلّب نتيجة ثورة الأدوات أو ثورة المعاني أو ثورة المفاهيم، سنجد أن هذه الثورات كلّها تضع الإنسان في مواجهة هذا الغموض الذي أتكلّم عنه».
المصدر: السفير