عاصي الرحباني: رأى ما لم يره الآخرون

الجسرة الثقافية الالكترونية-السفير-

صباحاتنا بأغلبها رهينة فيروز وعاصي ومنصور. صباحات تتبصر لونها ورقتها وترأف بالمتوحدين والمتعبين.

يطلع صوتها علينا متل نقزة بالقلب، عاصي علّمها تنقيز القلوب، عاصي الملك.

قالت صديقتي انها ترى كما لو الآن، موكب جنازة عاصي الرحباني ينطلق من مستشفى الجامعة الاميركية الى بلدته انطلياس في عز دين الحرب.

جال الموكب ببطء – قالت لي تُخبرني المشهد القديم مُغمضة العينين – على بعض أحياء الغربية فتسنى للناس وداعه. المثقفون الذين هرعوا الى الجامعة الاميركية لدى سماعهم نبأ موت عاصي كانوا: «بينعدّوا عالاصابعً» ـ قالت لي ـ وهي كانت منهم. كان مقهي الاكسبرس حينذاك يعج بالمثقفين «وما حدا كلف خاطرو ينزل عامستشفى الجامعة تايودع عاصي ويواكب الجنازة. أنا حزنت كتير» ـ اردفت ـ فعاصي كان «شغلة كبيرة» وما زلنا لغاية الآن نُحب مثلما قال لنا عاصي أن نُحب، ونرى الى الوطن كما أراد لنا ان نراه. لقد بنى أحاسيسنا على طريقته، وعلى طريقته رسم مشاعرنا وحفرها وخلقها.

عدم نزول المثقفين الى مستشفى الجامعة، لا يعني شيئًا بالطبع أقول لنفسي، وأقول أيضا ان اغنيته إنجيلهم وُمنعشة نفوسهم، وزاد كل منهم على حدة، بذكرى خاصة.

انه عاصي الذي امتلك سخونة الدم القصدية، العصية على الفساد، تلك التي يتطلبها طبع الأعمال التي تدوم. امتلك عاصي فانتازيا التغيير في صبوات تجلت اغنيات ملتهبة بنار طيبة بدائية. أيضا عاصي الرحباني عكس مزاجاً واتجاهاً لبنانيا وعاش في قلبهما وأبدع. انني لا أسأل اليوم عن كم كانت عطاءاته؟ من كان يفكر مثله؟ وكم هو عددهم. قلة فكروا تقريباً مثل عاصي، فيلمون وهبي وزكي ناصيف ولا اعرف من بعد.

عاصي ميزه نزقه. قوة انجازه من نزق اقصى، وهو يمكن ان يعني تقريبًا صمتًا ما، أي الفكرة العادية عن الحياة وطريقة في العيش تقدم امثولتها عن شخص لبناني تحديدًا ممتلئ بترابط متناقض من الدقة، وأيضا من عدم التعريف. كان على حياتنا الفنية اللبنانية ان تتوقف بعد موت عاصي، وهو الضرر الأكثر إيلاماً من الحرب. كان له ذلك البذل الهائل النظيف، والعلاقة الداخلية النظيفة.

امتلك عاصي الهلوسة التي تنقص الآخرين، فقد مكنته هذه من ان يرى الكثير الذي لم يره الآخرون، لبنان الحقيقي الجميل مثلا في فكرته، بالاصوات العالية في داخله وبالآلام التي برحت به وغير المحتملة، والخفيفة ايضا كوهم.

لم يلحن عاصي فقط، أو يكتب اشعارًا أو يمسرحها في زمانه اللبناني، بل أيضا كان يفكر. كان يفكر افضل من الآخرين. كانت الافكار تنبت فيه. كانت نظرة عاصي الى الفن قادرة على أن تذهب أبعد بعض الشيء من سواه. لم يكن الشعر بالنسبة له مفردًا او غاية بحد ذاته. لم تكن الموسيقى كذلك. بل كان كل شيء يتعلق بكل شيء، لذلك يستعصي التفـــريق بين عاصي وفيروز أيضاً. في صوتها روح عاصي وفي صوتها أنينهما معاً.

لست معنية بتأريخ حياة عاصي، شعره وموسيقاه. افكر به كحب غير مشروط، طريّ المذاق مثل هواء صاف تماماً. اغنياته وفيروز ومنصور، ويا حلو شو بخاف اني ضيّعك هي عن أشياء فيّ، عن نوع الحب الذي أُحب، عن كيف أهوى نيل شيء من نهر عسل دائم ويستمرئ قلبي وجسدي متعة بعد أن يوقفني عاصي عن البكاء. كان يقول لي تحديداً، ولم يكن في آن يراني. عاصي كان يحدس وجودي ويبعث لي بالأغنيات.

لم يكن بامكانه ان يكون شاعرًا فحسب، او موسيقياً أو سوى ذلك، بل امتلك ابدا الاستعداد العبقري لكل شيء. نسي عمره في أغنياته. كل احتمال كان يجتذبه، وثمة شيء أقــوى من كل ذلك كان يمنعه من ألا يكون بهياً إلى هذه الدرجة. أقول لطفلتي إذا.. أسمعها وأموت بردا وغربة.

عروبته غير الواضحة وغير المحسومة، وبقيت فقط تتردد في أرباع الصوت في هذه الاغنية وتلك، وفي الكونتربوان التي كان سيداً فيها، جعلته أكثر إيغالاً في لبنانيته، ايضا أكثر إثراء لها. ثم ان ما كان يشده الى شكل الوجود اللبناني، بدا مجافيًا للحنين العروبي ولكن غير ُمسم. عاصي كان الارغام الذي أرغمنا على لبنانيتنا، على اللبنانية التي نبدو عليها. لذلك اعرف لماذا حزني حين اسمعه وفيروز ومنصور، ذلك انه حزن النقصان عندي، وحزن عدم اكتمالي في لبنانيتي وحدها.

في داخلي، ولأنني تربيت على أبو العلا محمد والقصبجي ورامي وأم كلثوم، ذلك الشيء الذي يفوق ما اقترحه عاصي عليّ. غير ان ما اقترحه يُعطي فكرتي عن الحب، فكرة ببالغ جمرتها الملتهبة.

هل وقعتُ ابدا في شرك سنديانات عاصي، وقمره وسهره، والبيت البعيد، والما في حدا، وكل اطيافه تلك؟ أبدًا. عاصي كان واضحاً لنفسه. انا كذلك. غير اننا تلمسنا معا العالم من حولنا بالعاطفة، وبأكثر الطرق امتناعا عن التعيين. تضيق عليّ لبنانيتي في الحقيقة وفي الفن. غير انني سرعان ما أتكوم أمام أنفاس فيروز وعاصي ومنصور، واتحلل الى نسمة لا تُرى.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى