عام ثقافي فرنسي مشتعل بالجوائز والأحداث

الجسرة الثقافية الالكترونية
أبو بكر العيادي
الأحداث الأليمة التي ضربت باريس في أول العام وآخره خلفت آثارا عميقة في نفوس الناس، فرنسيين وأجانب، وأصبحت موضوعَ جدل لا ينتهي في الدوائر السياسية وفي المنابر الإعلامية والثقافية، وكذا في ما ينشر من كتب، حيث تحول الإسلام والحركات الراديكالية السلفية وداعش -وعادة ما توضع كلها في سلة واحدة- إلى مواضيع أثيرة لكثير مما صدر منذ مطلع العام.
البداية كانت مع “خضوع” وهي رواية من النوع الاستباقي الديستوبي، لميشيل هويلبيك، تصور وصول عربي مسلم إلى السلطة عام 2022، فيطبّق الشريعة الإسلامية التي تفرض الزيّ الإسلامي في الجامعات، وتلغي المساواة بين الذكور والإناث، وتقلص مجال الحريات، ورغم ذلك تزدهر البلاد بفضل الأموال الخليجية أولا، وخروج المرأة من سوق الشغل ثانيا. ولم يكتف هذا الزعيم العربي بإصلاح الأوضاع الاقتصادية في فرنسا، بل سعى إلى تأسيس قوة سياسية أورو متوسطية، على غرار الإمبراطورية الرومانية، انتخب أيضا رئيسا لها، فزالت العَلمانية والمادية الملحدة والديمقراطية وناب عنها الإسلام، ليمنح شعوب هذه الإمبراطورية مترامية الأطراف عهدا من الرخاء والازدهار.
ثم عقبتها “2084، نهاية العالم” للجزائري بوعلام صنصال، وهي مستوحاة من رواية جورج أورويل “1984” وتصور هي أيضا أخا أكبر في جلباب ديني يفرض نظاما شموليا لا مجال فيه لرأي مخالف ولا لحرية جماعية أو فردية غير ما يأذن به، ويقود حربا تأتي على الأخضر واليابس لفرض معتقده، ما ينذر بنهاية العالم. والحاضر هنا أيضا هو الإسلام الراديكالي وإن لم يرد له ذكر. رافقتهما على مدار العام كتب سياسية عن أسباب انجذاب الشباب إلى الجهاد وداعش والحرب في سوريا.
كتب تحلل الوضع الداخلي
في كتاب “عدم الاطمئنان ثقافيا”، يتناول لوران بوفيه المتخصص في المذاهب السياسية طبيعة القلق الناجم عن تفشي الشعبوية والعنصرية، وانتشار الخطاب المحبط، وصعود الجبهة الوطنية، وأثر كل ذلك في نفوس الفرنسيين. ويحلل الكيفية التي يتمثل بها هؤلاء الظروف الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، كالعولمة وأوروبا والهجرة والإسلام والنخبة، ويبيّن كيف أن الأبعاد الثقافية ترتبط ارتباطا وثيقا بالظروف المادية، فالنظر إلى تلك المسائل يختلف باختلاف فئات المجتمع، ودخلهم ونصيبهم من المعرفة ووضعهم داخل سوق الشغل. والكاتب، يرفض الامتثالية، ويقترح سبل الخروج من هذا الداء الذي ينهش جسد فرنسا ونعني به انعدام الأمن الثقافي، لكي يعيش الفرنسيون معا في أمن وسلام، رغم اختلاف مذاهبهم ومعتقداتهم.
فيما يعتقد الباحث أوليفييه روا في “الجهل المقدس، أو زمن الدين بلا ثقافة”، أن أزمة الديانات التي تتبدى في المد الأصولي ناجمة عن انفصال متنام بين الدين والثقافات. فالدين بقي معزولا، بعد أن أخرج من الثقافات التقليدية التي وُلد فيها، وأقصي عن الثقافات الجديدة التي يفترض أن يندمج فيها. من هذا الفصام نشأت أغلب الظواهر الدينية “المنحرفة” التي نشهدها اليوم، ما أفرز مقاربة جديدة للظاهرة الدينية، مع أسئلة جوهرية تعيد الأحداثُ الجارية طرحها: أيّ علاقة بين الدين والثقافة، بين الدين والحضارة؟ ثمّ ما الثقافة، وما الحضارة؟ هل ينبغي على الثقافة أن تكون معارضة أو موافقة للشأن الديني؟ وكيف تحوّل الثقافةُ المعولمةُ الدينيَّ؟
أما الباحث الجزائري محمد أدراوي فيقدم في كتاب “السلفية المعولمة، من الخليج إلى الضواحي” بسطة شاملة عن ظهور التيار الأصولي السلفي في فرنسا، وتفرعاته وتجلياته، عقب دراسة ميدانية خالط أثناءها عددا منهم لمدة سنوات، واطلع على شعائرهم وأصول خطابهم الديني. وبالرغم من أن ميدان الدراسة الأبرز كان فرنسا، فإنه خصص جزءا هاما لهجرة أتباع السلفية إلى “أرض الإسلام” ليكونوا ألصق بتعاليم ديانة تشكل قطيعة مع ما عاشوه في فرنسا “الكافرة”.
كما يركز على تطورات تلك الأيديولوجيا اليوم وتحولاتها ونزوعها إلى آفاق عالمية، عبر حركات عديدة تحاول أن تمارس الإسلام “الحقّ”، الذي لا يمكن بلوغه في بلد غير إسلامي. وهو ما يوافقه فيه تقريبا جيل كيبل، المتخصص في جماعات الإسلام السياسي، إذ يبين في كتاب “رعب في فرنسا”، كيف أن فشل السياسات الاقتصادية وتهميش شباب الهجرة ما بعد الكولونيالية اجتماعيا وسياسيا دفعا ببعضهم إلى التوسل بنموذج “إسلام شامل” مستوحى من السلفية للالتحاق بالقطب الجهادي الذي يريد تدمير الغرب “الكافر”.
وكان لظهور جيل جديد من مسلمي فرنسا والتحولات الأيديولوجية للجهادية دور في انبهار عدد من الشبان الفرنسيين بالمعارك في سوريا والعراق، ثم انضمامهم إلى جبهات القتال، قبل أن ينقلوا عملياتهم داخل فرنسا.
في الوقت نفسه صار صعود اليمين المتطرف وخاصة حزب الجبهة القومية يهدد بتصدع المجتمع الفرنسي الذي يواجه اليوم خطر أطراف متطرفة من الجهتين تريد أن تفرض مناخ رعب وربما حربا أهلية.
وأما الإيراني فرهاد خسروخوار، فيرى أن الإسلام السياسي اقترن بالعنف منذ الثورة الإيرانية، وازداد انتشارا وحدّة بعد أحداث 11 سبتمبر، ففي كتابه “النزوع إلى التشدد” يركز على الكيفية التي نظر بها الفرنسيون إلى ظاهرة التشدد، ويرى أنهم استبعدوها في البداية لأسباب أيديولوجية، رغم تفشيها في أوساط الجالية المسلمة. ويتساءل عن دور الأيديولوجيا والظرف السياسي والوضع الاجتماعي والدين في دفع الأفراد إلى الانخراط في مسارات تنتهي بالتصلب والرغبة في العنف واستعماله بشكل لا حدود له. ويقدم، من خلال تجربته الميدانية في إيران والعالم العربي وفي ضواحي المدن الفرنسية وسجونها، تحليلا عميقا لظاهرة الراديكالية الجهادية في أوروبا والعالم العربي، لنفهم مثلا كيف انقاد شبان أوروبيون إلى الجحيم السوري.
كتب تحلل سياسة داعش
في “الدولة الإسلامية: تشريح الخلافة الجديدة” يرسم أوليفييه هان أستاذ التاريخ بجامعة آكس مرسيليا المتخصص في نشأة الإسلام، وتوماس فليشي دو لا نوفيل خبير القانون الدولي والأستاذ بمعهد سان سير العسكري، صورة قاتمة عن الوضع في العالم الإسلامي منذ عشر سنوات: راديكالية، فوضى سياسية، إرهاب، إبادة الأقليات. ما مهّد لظهور الدولة الإسلامية التي بسطت هيمنتها على سوريا والعراق، وبدأت تغير خريطة الشرق الأوسط وتقلب التوازنات الجيوسياسية حتى في قلب أفريقيا. ويصفها الكاتبان بكيان جاء ملبيا لتطلعات الإسلام السني الداعية إلى إعادة زمن الخلافة، وفق برنامج عملي تعوض فيه الكلاشينكوف السيف.
أما الباحث بيير جان لويزار فيبيّن في كتابه “فخّ داعش” أن مسارعة البغدادي إلى تبني أحداث باريس الأخيرة دليل على رغبته في تدويل المعركة التي تخوضها جماعته ضد “الكفّار”، وفق استراتيجيا وضعتها للخروج من قاعدة محلية، والظهور بمظهر منارة الجهاد الشامل في عيون الجهاديين في العالم، لجرّ الدول الغربية إلى ما تسميه حربا صليبية جديدة ضد الإسلام. وفي رأيه أن داعش تأخذ أحيانا أطروحات هانتنغتن حرفيا، لتصوّر الأحداث في شكل صدام حضارات. أي أنه ليس صراعا بين ثقافتين، بين الشرق والغرب، بين العروبة والعالم الأوروأطلسي، بل صراع جبابرة، بين الإسلام والكفر. وباب الإسلام مفتوح لكل وافد، حتى ولو كان أوروبيا أشقر بعيون زرق ومن أصول مسيحية، كما أن الكفر يتسع للجميع، حتى العرب، والمسلمين “غير المستقيمين”.
وأما الفيلسوف والمؤرخ فرانسوا غيري فيستعرض في كتاب “أركيولوجيا النيهلية” تاريخ هذه التيار العدمي منذ نشأته عام 1881 في روسيا إلى ظهور الحركات الجهادية الإسلامية، ليقدم خبايا فكر إجرامي، ويستحضر مفكرين عالجوا المسألة لتسليط الضوء على هذه النظرية الراديكالية التي تدعو إلى إبادة الآخر المختلف عرقيا أو أيديولوجيا، كما هو الشأن مع النظم التوتاليتارية والجماعات الإسلامية المتشددة.
كتب تقترح قراءة جديدة للإسلام
في كتابه الجديد “لماذا ينبغي أن نقرأ الفلاسفة العرب” يدعو علي بن مخلوف أستاذ الفلسفة إلى قراءة فلاسفة العرب في العصر الوسيط بعيون الفلسفة المعاصرة للوقوف على تماثلات في المنهج والنظرية، وإدراجهم في التراث الإنساني وتقاليده، لأنهم عرفوا كيف يعبّدون سبلا كثيرة لبلوغ الحقيقة، واشتغلوا على الدين والفلسفة دون فصل بينهما، مثلما وضعوا مصنفات شملت مجالات كثيرة كالطب والمنطق والتاريخ ساهمت في تشكل الفكر الأوروبي.
أما عبد النور بيدار المتخصص في الشؤون الإسلامية ومنتج برنامج “ثقافات الإسلام” في إذاعة فرنسا الثقافية خلفا للراحل عبدالوهاب المؤدب. فقد نشر كتابا بعنوان “دفاعا عن الأخوة” دعا فيه إلى استثمار زخم الأخوة التي تجلت في مسيرة التنديد بعملية “شارلي إيبدو”، والانتقال من الدفاع الذاتي إلى النقد الذاتي، سواء بالنسبة إلى المثقفين والسياسيين الفرنسيين أو مسلمي فرنسا الذين ينادون بـ”عدم الخلط” والحال أن الوحش الإرهابي خرج من الجسد المريض للإسلام. ويلحّ على التعاون حتى لا يكون العنصر الثالث من شعار الجمهورية، أي الأخوة، غير ذي معنى.
فيما يقدم عبد الوهاب المؤدب في كتاب “لحظات صوفية”، الذي صدر له بعد وفاته، وجه الإسلام المنفتح على الآخر، وعلى الكوني، وفسحه مجال القول والإبداع للذكر والأنثى على حدّ سواء.
وما زالت هذه المواضيع تستهوي المحللين والباحثين، خصوصا بعد الاعتداءات الأخيرة، فقد صدرت كتب كثيرة نخص بالذكر منها “تاريخ الإرهاب، من العصر القديم إلى داعش” لجيرار شاليان، و”الفلسفة في مواجهة العنف” لمارك كريبون، و”المثل الأعلى والقسوة” لفتحي بن سلامة، و”في قلب جيش الرعب” لمايكل فايس، كما خصصت مجلة “الأزمنة الحديثة” ملفا عنوانه “الربّ والإسلام والدولة” ساهم فيه عدد من المفكرين.
رولان بارت في مئويته
من الأحداث البارزة كذلك احتفال المؤسسات الأكاديمية في فرنسا وخارجها بمئوية عالم السيمياء الشهير رولان بارت (1915-1980) فقد صدرت كتب كثيرة تناولت سيرته وإضافاته في الحقل المعرفي، وأعيد نشر أعماله ومحاضراته ودروسه. آخر هذه الكتب “محاولات نقدية” وهي مقالات تلخص قراءاته لنماذج من المسرح والأدب، وتشمل نقدا لكتاب كلاسيكيين كفولتير وبودلير، ومعاصرين كريمون كينو وألان روب غرييه، يتوقف فيه الكاتب عند تجارب فكرية وفنية بارزة أو مثيرة للجدل من نضال بريخت إلى النشاط البنيوي مرورا بالرواية الجديدة، مراوحا بين الاستطلاع والاكتشاف، مبرزا ما للكتابة الأدبية واللسان المسرحي من خصوصية وتمايز، مخضعا ذلك كعادته إلى سلطة الرموز والعلامات، حيث يجد الفكر الحديث فضاءه وسلطته. والمعروف أن بارت كان وضع فكرا نقديا متفردا يحاور باستمرار تعدد الخطابات النظرية والحركات الثقافية في عصره، ويدين في الوقت نفسه كل خطاب مكرّس.
سيرة ليفي ستراوس
الحدث الثاني صدور كتاب “ليفي ستراوس” وهو سيرة ضخمة أوكل إعدادها لإمانويل لواييه منذ 2009، سنة الاحتفال بمئوية إثنولوجي حاول أن يفهم العالم ويرتب فوضاه على غرار ماركس وفرويد. رغم تكوينه الفلسفي اختار أن يقصد البرازيل في أواسط الثلاثينات لتدريس علم الاجتماع، فعهد له بتدريس مادة لا يعرفها وهي الإثنولوجيا، حيث يقول في إحدى رسائله “كان تدريس الإثنولوجيا بالنسبة إليّ خير وسيلة لتعلمها، لأنني كنت أجهل عنها كل شيء”. ولكنه وجد فيها ما يلبي تعطشه لفهم شتى الظواهر، حتى تلك التي تبدو لاعقلانية في سلوك البشر، لأنها في نظره سبيل آخر كي لا يبقى أيّ شيء في الكائن البشري غريبا عنا. وفضل الكاتبة أنها لم تأخذ برأي الدوكسا لوضع تراتبية بين البنيوي الثوري خلال سنوات البحث، والقامة الوطنية التي تبدت من بعد، خصوصا إثر التحاقه بالأكاديمية الفرنسية.
رحيل رينيه جيرار
وأما الحدث الثالث، فهو وفاة الفيلسوف وعالم الأنثروبولوجيا الفرنسي رينيه جيرار (1923-2015) صاحب كتاب “الكذب الرومانسي والحقيقة الروائية” الذي تمخض عن تدريسه كتّابا قرأ لهم في شبابه كثربانتس ودستويفسكي وبروست وستندال وفلوبير، واستخلص من تلك التجربة مشروع حياته، أي تعقّب مصير الرغبة البشرية من خلال الأعمال الأدبية. في هذا الكتاب طرح جيرار لأول مرة نظريته عن الرغبة المحاكية، التي طوّرها فيما بعد في كتابه الأشهر “العنف والمقدس″. وخلاصة هذه النظرية أننا لكي نفهم الكيفية التي تسير بها مجتمعاتنا، ينبغي الانطلاق من رغبة الإنسان وطبيعته الباتولوجية أساسا.
فالرغبة مرض، وكل شخص يرغب في ما يرغب فيه غيره، وهذا هو منطلق كل نزاع. من هذا التنافس تنشأ حلقة العنف والانتقام، التي لا تُحلّ إلا بالتضحية بكبش فداء، تضحية تسمح بتهدئة الجماعة ورصّ صفوف الطائفة.
ويتبوأ جيرار مكانة خاصة بفضل نظريته المتكاملة عن دورة العنف في المجتمعات البشرية، سواء في كتابه “العنف والمقدس”، أو في كتبه اللاحقة مثل “في المكتومات منذ تأسيس العالم” و”أرى الشيطان يهوي كالبرق” و”من العنف الى الألوهية”.
ولا يفوتنا أن ننوّه بكتاب “المثل الأعلى والقسوة” للتونسي فتحي بن سلامة، و”كوسموس” لميشيل أونفري، و”مراسلات فلسفية” للفيلسوف الألماني لودفيغ فيتغنشتاين، التي قد نعود للتعريف بها على حدة.
المصدر: العرب