عبدالرحيم جيران يكتب

الجسرة الثقافية الالكترونية

 

 

خالد لكطابي

 

من بين الأفلام الإسبانية التي نزلت إلى دور العرض نجد فيلم «مي غران نوتشي» أي ليلتي الكبيرة للمخرج أليكس دي لا إيغليسيا، الذي يعد من المخرجين المجددين في سينما شبه الجزيرة الإيبيرية، وهذا الفيلم ينضاف إلى لائحة الأفلام التي أخرجها منذ تسعينيات القرن الماضي، التي كان يغلب عليها طابع القتل والرعب، لكن فيلمه الجديد يعتبرتغييرا هادئا في أسلوب المخرج السينمائي، سواء من حيث الموضوع المعالج أو من ناحية طريقة الحكي، في الوقت الذي احتفظ فيه على عمق المعنى، لأن عالم المخرج مليء بالأسرار، التي يجب على المشاهد أن يتقن فن الغوص حتى يتمكن من سبر أعماقها لأنها ببساطة لا تظهر على السطح حتى إن بدا ذلك…

ويحكي «مي غران نوتشي» قصة الحفل الذي تنظمه إحدى القنوات التلفزيونية الخاص باحتفالات رأس السنة الميلادية لسنة 2016 والذي تجري أطواره داخل استوديو، حيث ينقلنا دي لا إغليسيا إلى عالم التلفزيون وكواليسه ويرصد لنا ما يكتنفه من النفاق والمحاباة…

ترتكز شخصيات الفيلم على عنصر الاحتفال داخل فضاء مغلق، يشكله الأستوديو الذي يظهر على أنه منظم بشكل لافت وطبيعي، لكن سرعان ما يبدأ لنا في الظهورعلى حقيقته تماما كما يزال التجميل عن الوجه لنكتشف بشاعة الواقع الذي لا تحجبه رتوشات صالونات تبييض الوجوه المزيفة…

يبرز المخرج عالم الأستوديو كفضاء يجمع جمهورا متحكما فيه عن بعد في كل تصرفاته وفي حركاته وسكناته، فهو موزع على موائد فاخرة تليق بعشاء ليلة رأس السنة، لكننا سنكتشف بأن ما يقدم على الموائد من دجاج وأكواب نبيذ ما هي إلا ديكورات ليس إلا، وأن ما يجمع الحاضرين من المشاهدين الذين تختلف شخصياتهم وعوالمهم ويجعلهم يشاركون في اصطناع تعاملاتهم هو حصولهم على المال عند انتهاء التصوير ..

لقد استطاع دي لا إيغليسيا أن يقدم لنا عالم الاحتفال بأسلوب هزلي وفكاهي، يتقنه كثيرا ويميزه عن باقي المخرجين الآخرين ليجعل المشاهد مشاركا في قلب الأحداث، فقد علق شماعة سرده الفيلمي على سقوط رافعة لكاميرا التصويرالتي تقوم بعملية المصاحبة لنقل أجواء الأستوديو، عبر تقريب وتبعيد الصورة، ليلقى أحد المشاهدين حتفه ويغلب طابع الحزن على الجمهور، لكن أصحاب الحفل يجتهدون في تنشيط الحاضرين، ويتم البحث عمن يجلس في المقعد الشاغر الذي رفض البعض ملأه لأنه مكان مشؤوم لينادي على أحد العاطلين ليعوضه، وهنا ينقلنا المخرج إلى واقع المعيش لشخصياته التي يشكلها الجمهور..

كما يقدم الفيلم واقع الصراع الذي يعيشه النجوم من مطربين ومقدمي الحفل والساهرين عليه من مخرجين وتقنيين ويقربنا من الحرب التي تدور رحاها في مكان مغلق، لكنه منفتح على تقلبات وأمزجة يتحكم فيها وهم الشهرة لصناعتها والتأثير فيها، تصل أحيانا إلى نصب المقالب وفبركة الإشاعات التي تزدهر بفعل نشاط المحيطين بالوسط الفني.

«مي غران نوتشي» التي يعتقد فيه المطرب النجم ألفونسو، يجسد شخصيته المطرب رافائيل، بأنها ليلته هو وبأن كل الأنظار يجب أن تسلط عليه وحده حتى إن اقتضى الأمر إلحاق الأذى والضرر بأعين مطرب شاب يحصد عددا كثيرا من المعجبات والمعجبين… 

وشارك في التشخيص إلى جانب رافائيل ماريو كاساس، كارمن ماتشي، هوغو سيلبا، بلانكا سواريث، كارولينا بانغ، سانتياغو سيغورا وتيريلي بافيث …

لقد وظف أليكس، لحكاية وقائع فيلمه، أسماء ونجوما قدمت من خلفية برامج للمسابقات الغنائية، بل ومشاركة في العديد من البرامج التي تعتمد على هذا النوع من الفرجة المتحكم فيها، والتي تأخذ هنا طابعا كوميديا بعد وقوع أحداث بالصدفة، جعلت مجريات الاحتفال تنفلت لنجد أنفسنا أمام احتجاجات ينظمها متظاهرون أمام مقر القناة وحضور الأمن لقمعهم، مما يعطي لأحداث الفيلم تصاعدا دراميا، يجعل المشاهد لا يتحرك أمام توالي لقطات الفيلم من دون أن يفارقه الضحك الذي يتخلل حوار الشخصيات التي تكشف عن حقيقتها …

والفيلم لا يعد نقدا لعالم الاحتفال داخل التلفزيون، بل أيضا لعالم السينما التي تستخدم فيها الأساليب نفسها وإن اختلف الحامل التقني والموضوعاتي الذي يشكل المخرج جزءا من ذلك العالم تماما كما يفعل نجوم السينما مع الكومبارس.

ويناقش الفيلم أيضا الأزمة الأخلاقية التي يعرفها عالم التلفزيون والتي تشكل انعكاسا للأزمة الاقتصادية التي تمر بها إسبانيا، ولعل ما يمنح الفيلم قوته هو تعدد إشاراته التي يرسلها بشيفرات جد معقدة يمكن أن تصل إلى كون التحكم في تنظيم ليلة احتفالية في استوديوهات القنوات شبيها كذلك بالتحكم الذي تمارسه الدول في انتخابات أو استفتاءات أو حروب إعلامية متحكم فيها عن بعد.

ويعرف أليكس دي لا إيغليسيا بمواقفه غير المهادنة، حيث استقال من منصبه سنة 2011 أي بعد سنتين من اختياره رئيسا لأكاديمية الفنون والعلوم السينمائية الإسبانية، احتجاجا على تطبيق قانون الاقتصاد المستدام الشهير بقانون سيندي ويرت..

وازداد أليخاندرو دي لا إيغليسيا ميندوثا الشهير بأليكس دي لا إيغليسيا في مدينة بيلباو عام 1965 ونال الإجازة في الفلسفة من جامعة دوستو في مدينة سان سيباستيان ومارس الكتابة الساخرة والديكور قبل أن يتحول إلى الإخراج وكتابة السيناريو والإنتاج ..

وسبق لمخرج فيلم «إل ديا دي لا بيستيا» أي يوم الوحش أن نال جائزة غويا لأحسن مخرج عن فيلمه هذا سنة 1995…

 

ويعرض الفيلم في الوقت الذي يقترب فيه العالم من الاحتفال بالسنة الميلادية الجديدة وتقبل فيه إسبانيا قبل ذلك على حملة انتخابية لتحديد ساكن المونكلوا الجديد.. لكن يبقى الفيلم مليئا بالإشارات التي تمس في العمق حالات انعدام القيم الأخلاقية والثقافية التي تعرفها المجتمعات الحديثة اليوم، والتي يغلب عليها الطابع الاستعراضي والمنافسة غير الشريفة واللعب بالمظاهر الكاذبة..

وما يميز أسلوب المخرج أليكس دي لا إيغليسيا اختياره لموضوعات تتميز بالجرأة والذهاب إلى أبعد الحدود بطريقة تحرج ليس فقط المشاهد، بل أيضا رفاق المهنة وكأنه يوجه صرخة الإنذار لتفادي الأسوأ المقبل..

 

فيلم «مي غران نوتشي» للمخرج الاسباني أليكس دي لا إيغليسيا: نقد لعالم الاحتفال الإعلامي وصرخة الإنذار لتفادي الأسوأ المقبل

المصدر: القدس العربي

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى