عبدالقادر الجنابي يقترح أنطولوجيا عالميّة لقصيدة النثر

الجسرة الثقافية الالكترونية
*أنطوان جوكي
أسبابٌ كثيرة تفسّر ـ وتبرّر ـ الاهتمام البالغ الذي يبديه الشاعر والناقد العراقي عبدالقادر الجنابي، بقصيدة النثر منذ سنوات طويلة، لعل أبرزها ما نقرأه في مقدّمة الأنطولوجيا العالمية التي وضعها بعنوان «ديوان إلى الأبد»، وصدرت حديثاً عن دار «التنوير»: «يتّفق جميع النقاد على أنهم أمام جنس أدبي شاذ غرضه تهديم الأنواع، ناهيك على أن شكل هذه القصيدة الوحيد الأوحد ينطوي أيضاً على بُعد تهديمي بصري، وبالتالي مفهومي، يقوم على نسف الأفكار المسبقة والعادات المفهومية لدى القارئ (…)».
وبالتالي، لا هوس مرضياً في هذه القصيدة، كما يظنّ بعضهم، بل اهتمام يندرج في سياق التعريف الضروري بقصيدة ما زال الالتباس يلفّ تاريخها وقوانينها في عالمنا العربي، ويندرج في سياق إنجازات الجنابي الكثيرة وثقافته الطليعية التي تؤمن – على حق – بضرورة الهدم من أجل تشييدٍ على أسس صحيحة وسليمة.
هكذا نقرأ عمله الأخير والجهد البحثي والنقدي والترجماتي الجبّار الذي تطلّبه منه، وكانت ثماره 420 قصيدة نثر لـ117 شاعراً من مختلف أنحاء المعمورة، ومقدّمة طويلة تشكّل خير تعريف بتاريخ هذا النوع الشعري وأسمائه وقوانينه.
ما نحفظه من هذه المقدمة، هو أن مصطلح قصيدة النثر كان متداولاً منذ القرن الثامن عشر، على أن بودلير هو الذي أحدث تغييراً فيه وأخرجه من دائرة النثر الشعري إلى دائرة النـــص، مطلقاً هذه القصيدة كجنـــس أدبي قائم بذاته. وبالتالي، «مـــن الخطأ الكبير أن نحاول العثور علــــى أشكال لقصيدة النثر البودليرية في ماضي النثر الفرنسي»، يقول الجنابي، لأن «بودلير، في مشروعه نحو لغة شعرية تستطيع أن تتقاطب وما يتجدد مدينياً في شوارع الحياة الحديثة، جعل كـــل القطع النثرية التــي كُتبت قبله تنـــام كأشباح في ليـــل النـــثر الفـــرنسي، آثاراً توحي ولا تُري أي إمكانية نظرية تأسيسية».
وبعد وقفة سريعة عند خصوصيات قصيدة النثر التي يرى فيها كتلة مؤطّرة من الجمل المتلاحقة بكثافة حادة، تتميز عن سائر الكتل بإيجازها وتواترها، خصوصاً بلا غرضيتها المجانية التي تشكّل خيط السرد المتحرك فيها، يرى الجنابي أن هذه القصيدة تقع على نقيض قصيدة النثر العربية السائدة، التي لا تلبي غالباً مطلباً واحداً مما اتفق النقاد عليه. وإذ لا ينكر حق كل شاعر «أن يكتب وفق نبض أحاسيسه وصوته الخاص»، إلا أنه يعتبر أن «الإصرار على تسمية عملٍ يتعارض جوهرُه، شكلاً ومضموناً، مع ما يتميّز به هذا الاسم، لهو تعبيرٌ عن اعتباطية العمل نفسه».
نقطة أخرى مثيرة في مقدّمة الجنابي، هـــي تلك التـــي يشيـــر فيها إلى دور التـــرجمة في «كسر الأبواب الموصدة في لغة التراث ونحوه المنغلق. ففي نظره، «أُطلِق النثر في سماوات جديدة من التـــركيب والتعبير والصورة، بفضــــل الترجمات التي عرفتها اللغة الفرنسية بين القرنين السادس عشر والثامن عشر». ولا يفوت الجنابي دور الحركة الرومنطيقية الكبير في «تليين الشعر وتقريبه من النثر». وفي هذا السياق، يستحضر أسمـــاء الناثرين الذين يمكن اعتبارهم ممهدين لقصيدة النثر، مثل إيفاريست بارني وفيليستيه دي لا ميني وألفونس راب، قبل أن يتوقف عند ألويزيوس برتران الذي يتفق معظم النقاد على إعطاء كتابه «غاسبار الليل» وثيقة ميلاد القصيدة المذكورة.
بعد ذلك، يستدعي الجنابي بودلير الذي اعتبر هذه القصيدة «التعـــبير الأسمــــى عن كآبة باريس، والنموذج الأحدث لالتقاط الشعري في ما هو عابر وزائل في المدن الكبرى»، ومالارميه الذي «تنـــاولها كنادرة مهمتها التعبير عن عالمٍ آخر، (…) العالم المشيّد داخل اللغة»، ورامبو الذي «استشفّها وسيلةً مثلى للتعبير عن فوضى الأنا الداخلية ومشاريعها في خلخلة الحواس»، ولوتريامون الذي جعل منها «سيلاً شعرياً في الكشف عن شيء آخر لا علاقة له بكل ما كُتب في التاريخ عن الشر».
باختصار، يشير الجنابي إلى تدفّق قصائد نثر كثيرة طوال النصف الثاني من القرن التاسع عشر، إلا أن ظهور «الشعر الحر» غطّى على أهميتها وثوريتها، فكادت تُنسى لولا ماكس جاكوب وبيار ريفيردي، في مطلع القرن العشرين، فهما «منحاها تنظيراً واضحاً عبر نماذج أطلقتها إشكاليةً لكل القول الشعري حتى اليوم».
ولأن أنطولوجيا الجنابي عالمية، يتوقف صاحبها عند أسماء شعرية مهمة من مختلف أنحاء العالم، مارست هذا النوع الشعري بأصالة انطلاقاً من تأثّرها بقصيدة النثر الفرنسية، كالروسي إيفان تورغينييف وشعراء اللغة الإسبانية خوسيه مارتي وخوليان ديل وروبين داريو وخوان رامون خيمينيث وفينثنت هويدوبرو ونيرودا وبورخس وباث وكورتزار، والصـــيني لو كو. وإذ يشير إلى أن قصيدة النثر لم تنجح في وضع أسٍّ لها في إنكلترا بسبب «خط المحافظة الأحمر الذي لا يمكن زعزعته»، يبيّن أن تاريخ قصيدة النثر الألمانية يختلف عن تاريخ قصـــيدة النثر الفرنسية، لأن الأولى لم تأت نتيجة «حدوث طارئ في صـــلب البلاغة»، بل كـ «تطور طبيعي لما قامت به الرومنطيقية الألمـــانية من غزو لأصقاع النثر الألماني، مستخرجةً منه «شذرات» مغــلقة في ذاتها غَلْق قصيدة النثر».
وفي العربية، يرى الجنابي أن هذه القصيدة لم تُقدَّم في الشكل الصحيح، بل «أُطلِق اسمها خطأ على قـصائـد حرة مشطّرة». ولذلك، لم يجد نماذج صحيحة منها إلا في ديوان أنسي الحاج «لن»، وفي تجارب عدد من الشعراء الحديثين الذين اختار 27 منهم للمثول في الأنطولوجيا.
أما في ما يتعلق بنصوص الشعراء الأجانب الحاضرين في العمل، فقد اعتمد الجنابي في اختيارها على وجهة نظر النقاد المتخصصين في قصيدة النثر، من دون إهمال وجهة نظر الشعراء أنفسهم في بعض نصوصهم. ولأن الشمولية والموضوعية مستحيلتان في أي أنطولوجيا، ثمة موازنة بين الاختيارين الموضوعي والذاتي ضمن سعي يهدف إلى كشف للقارئ العربي حقيقة قصيدة النثر وتراثها الكوني.
تبقى ملاحظة لا بد منها حول طريقة عمل الجنابي على النصوص الأجنبية التي تحضر في هذه الأنطولوجيا ولا يتقن الشاعر العراقي لغاتها الأصلية. فلنقلِ هذه النصوص إلى العربية، اعتمد الترجمات المتوافرة منها في الفرنسية والإنكليزية، وعمد إلى مقارنة هذه الترجمات لحصر مضمونه وطبيعة خطابه بدقة. وفي كل مرة وقع على تباينٍ كبير في هذه الترجمات، لجأ إلى أشخاص ضليعين في لغة النص الأصلية لتبديد الالتباس. من هنا قيمة عمله في هذه الأنطولوجيا التي تشكّل، من دون مبالغة، مرجعاً عربياً فريداً في ميدانها.
المصدر: الحياة