عبدالقادر الريس في مناجاة التراث والمعاصرة

الجسرة الثقافية الالكترونية

*مهى سلطان

 

 

يعتبر عبدالقادر الريس واحداً من أبرز الفنانين الإماراتيين المعاصرين الذين جسدوا في لوحاتهم ملامح تراثية من نسيج الحياة الخليجية المعرّضة للإندثار. لقد بدأ حياته الفنية في أواخر الستينات، عاشقاً لرسم الوجوه والقامات الإنسانية ثم جالت ريشته في الحارات القديمة، يستمدّ منها إلهاماته وموضوعاته التي تمحورت حول جماليات الأمكنة تحت علامات الضياء. ورسم أيضاً استراحة الزوارق على الشطآن. ونتيجة لصعوبة الظروف المعيشية انقطع عن الرسم لسنوات، ثم ما لبث أن استعاد يقينه بحب الفن، فعاد في مطلع الثمانينات الى قطف الواقع من جديد من خلال رسم البيوت والعمائر القديمة والسدود والسفن الخشبية وزخارف الأبواب التراثية والنوافذ المفتوحة على بريق الشمس وظلال المجهول، لينتقل بعدها الى محاكاة الطبيعة، فرسم بالألوان المائية العديد من المواقع ومناظر الجبال وصخور الوديان وكثبان رمال الصحارى.

ارتبطت بداياته برسم أشجار النخيل مع هواجس التعبير عن رونق الزخارف التي تزيّن واجهات البيوت الخليجية، فهو يرى أنّ أصلها التراثي ثابت وفروعها الشرقية تعانق أحلام الفنانين والمعماريين على السواء. لذا سعى الى قطف حالات زخرفية من التراث الإماراتي كالعقود والعتبات، والأبواب، ودرف النوافذ، والكشك، والمندلون، والقمرية والمشربية.

لم تكن تهمه لغة الأشكال المعمارية بمقدار ما كانت تثيره فضاءاتها الشعرية وعلاقتها بحرارة الضوء وانكسارات الظلال وشاعرية الأفياء وصورها المنعكسة في مرايا الذاكرة. لذا فتح لوحاته المائية على سراب الظلال الباردة وحرارة النهاريات المشمسة، وبدا كما لو أنه يجمع بين ألوان الماء والنار في محاولة للتعبير عن قدرة الحلم على خطف إيقاعات الزمن المتغير وانعطافات مظاهر الحياة في البيوت والبوابات المغلقة والمهجورة، بالعلاقة الأزلية بين التراب والريح.

الإحساس بالأمكنة بات العنوان الرئيس في تجارب عبدالقادر الريس، لا سيما مرحلة «الأبواب» التي ظلت تراوده طوال عقود، قبل أن ينجرف وراء التجريد اللوني الذي سرعان ما زاوله قريناً للحروفية (من العام 2002 حتى الآن). هكذا تحرّر من الأمانة للواقع وراح الى مكامن الخيال والشعر، ساعياً الى إيجاد علاقة بين انسيابية الحرف وإيقاعاته كصوت، وبين تناثر الضوء كحركة، للتعبير عن إمكانات دمج مساقط المربع كنقطة وهمية من أجل فتح أبواب الأنظمة السرية لصفحات الخطاطين. واستطاع الريس أن يهب حروفياته حلة معاصرة هي امتداد للمنجز التشكيلي الحداثي للفنانين العرب من قبله. فالريس فنان مائي بامتياز، اجتاز تأثيرات الرسام الانكليزي ترنر والانطباعيين الفرنسيين، واستطاع بأسلوبه الشاعري وتجريدات ألوانه البركانية وتبقيعاته الحارة ان يكون نفسه. تفوق في الإمساك بتلابيب تلك التقنية السائلة الشفافة للتلاعب بالأشكال وغيومها البنفسجية وإضرام حرائق اللون في محيط من التناقضات والتناغمات الشبيهة بمقامات موسيقية حرة. هكذا أضحى فضاء اللوحة كمِشكاة من أناشيد الألوان والعلامات المتلاشية التي تحوم على سطحٍ من بُعدٍ واحدٍ مبني على الوهم إن لم نقل على أهبة سفر الحروف ومواكبها إلى عيون ناظريها.

في الكتاب الذي تناول مسيرته الفنية بعنوان «علامات فارقة: عبدالقادر الريس» (صادر عن منشورات متاحف الشارقة – الإمارات العربية) تحدث الباحث يوسف عيدابي عن الريس فقال: «ذهب إلى حيّز الفن بإنسانيته برغبة أن تطلع أعماله مشغولة بهويته ومن روحه لتقول لأفق العولمة أن إنسانيتها من أناه ومن أصالته. فاستحق ان يستجيب العالم لأعماله، وأن يتذوق جذرها المحلي الذي يتحدّر من أمواه الراهن الإنساني بتناغم أخاذ». اما الفنانة نجاة مكي فوصفته بـ«عاشق الضوء» وأنه «يمثل نموذجاً للريادة الفنية ليس على مستوى المنطقة فقط ولكن على المستوى الاقليمي أيضاً. فقد وهب نفسه وموهبته للتعبير عن الإنسان من خلال الموضوعات الاجتماعية النابعة من البيئة…».

يُعد عبدالقادر الريس من أبرز فناني جيله في الخليج والعالم العربي، دخلت أعماله مقتنيات العديد من المتاحف العربية والدولية، لا سيما المتحف البريطاني، وبيعت أعماله في أكثر من مزاد لدار كريستيز في دبي. ويعتبر الريس سفيراً للفن العربي والإسلامي المعاصر الذي بدأ مدراء الفنون في متاحف العالم يدركون قيمته.

المصدر: الحياة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى