«عرابو الخداع» للفلسطيني رشيد الخالدي: كيف قوّضت الولايات المتحدة فرص السلام في الشرق الأوسط

الجسرة الثقافية الالكترونية – القدس العربي
صدر في الولايات المتحدة حديثا عن دار نشر بيكان برس، كتاب للمؤرخ والأكاديمي رشيد خالدي بعنوان «عرابو الخداع: كيف قوّضت الولايات المتحدة فرص السلام في الشرق الأوسط»، مستندا على مانشرته الإدارة الأمريكية من وثائق متعلقة بالصراع الفلسطيني والعربي الإسرائيلي بحكم التقادم. وقد وعد المؤلف بمتابعة الكتابة حول الموضوع لتوافر المزيد من الوثائق حوله.
الكتاب من الحجم المتوسط ويقع في 167، ويحتوي على مقدّمة مطولة وثلاثة فصول والاستنتاج إضافة الى شرح للملاحظات والفهرس. وتنبغي الإشارة إلى أن المؤلف كان مشاركا كمستشار في الوفد الفلسطيني المفاوض عام 91-93 وهو فلسطيني أمريكي، ويشغل حاليا كرسي إدواد سعيد في جامعة كولومبيا حيث يدرس. كان إسم رشيد خالدي متداولا في الإعلام الأمريكي وعلى المستوى الوطني عند ترشح الرئيس باراك أوباما للدورة الانتخابية الأولى،لأن العلاقة العائلية والزمالة في التدريس والجيرة في السكن أغرت مروجي الشائعات ونابشي الفضائح للتفتيش عن غسيل وسخ لنشره ولكن دون جدوى.
يحاول المؤلف مستندا إلى الوثائق المفرج عنها إضافة لما بحوزته و بحوزة زملائه المفاوضين وطلاب الدراسات العليا لديه، أن يثبت بأن السياسة الأمريكية خلال 35 السنة الأخيرة زعزعت أسس السلام في الشرق الأوسط بدل تسهيله أو العمل على إقراره، ولم تكن صادقة في توسطها بين الطرفين الفلسطيني والإسرائيلي، بالعكس كانت تلعب دور محامي الدفاع عن إسرائيل على حد قول آرون ديفيد مولر عضو الوفدالأمريكي المفاوض بزمالة دنيس روس ودانيال كرزر عام 91-93.
الهدف الثاني للكتاب هو الإشارة إلى العناصر المشكلة والمؤلفة للسياسة الأمريكية تجاه هذا الصراع، فرغم التغييرات الكثيرة التي حصلت في الخمسة وثلاثين سنة الماضية فإن الواضح هو ثبات أسس هذه العلاقة التي سمحت لإسرائيل والولايات المتحدة بتشكيل ورسم حصيلة هذه العلاقة بما يتناسب مع مصالح الدولتين المتواءمة سياستهما تجاه القضية الفلسطينية رغم تغير الإدارات. هذا النهج في السياسة وتكراره عند كل منعطف هو نمط بنيوي في السياسة الأمريكية، وإذ يتم رصد لأي تغيير فلن يكون لمصلحة الفلسطينيين بل العكس.
هنا يقفز إلى الذهن دوام ارتهان و ضبط أجندات الأنظمة العربية والأحزاب السياسية ومعظم المنظمات الفلسطينية على مواعيد الانتخابات الرئاسية الأمريكية أو تجديد الولاية إضافة لانتخابات الكونغرس، وما قد يحمله من تغيير تبعا لتغير الأشخاص.فحقيقة الموقف الأمريكي الفعلي (الحزبين الجمهوري والديمقراطي) رغم تعاقب العديد من الرؤساء، يتميز بالثبات في سياسة الدعم لإسرائيل، وآرائهم الفعلية وبحسب المؤلف توحي بعدم وجود شعب فلسطيني له تطلعات وحق تقرير المصير (نيوت غينغرتش وتصريحاته وغيره) من الأساس، رغم المواقف الشكلية التي تدّعيها الإدارة الأمريكية بموافقتها مرغمة على قررات الجمعية العامة للأمم المتحدة و غيرها مما لا يمكن نقضه.
المؤرخ خالدي يصل إلى هذا الاستنتاج بعد أن يثبت بأن النهج السياسي هو نمطي متكرر،لذلك درس ثلاثة حقب أو لحظات تاريخية في الخمس والثلاثين سنة الماضية. ويعتقد الدكتور خالدي بأن تلك الحقب قد تكون ثانوية في تاريخ القضية الفلسطينية ولكن كما قال المؤرخ الفرنسي فرناند برودويل «الحدث الثانوي قد يشكل دلالة حقيقية كبيرة». ويبدو أن عمل المؤرخ يحفل بالدلالات والحقائق لتساعد في فهم ما هو حاصل حاليا و لاحقا مع الأمل بأن يُبنى عليها سياسيا بما تمليه الدراسات الأكاديمية اللاّمؤدلجة أو الصادرة عن مراكز بحوث تابعة لغايات الممولين.
وقبل إلقاء الضوء على تلك الحقب أو اللحظات التاريخية كما يسميها، لا بد من استعراض أهم النقاط الواردة في المقدمة. وفيها يشير المؤلف إلى العناصر المؤثرة في صناعة القرار السياسي المتعلق بالصراع الفلسطيني الإسرائيلي. وبرأيه فإن الاعتبارات السياسية المحلية (انتخابات، متبرعين، إيباك والصراع السياسي في الكونغرس) تلعب دورا مهما في صياغة القرار على أن لا يتعارض ذلك مع المصلحة الإستراتيجية الأمريكية، التي يمكنها كبح العوامل المحلية كما حصل عندما امتنعت الإدارة عن ضرب إيران بسبب ممانعة لوبي الدفاع ولوبي النفط على الرغم من معارضة إيباك وأنصارها في الكونغرس لهذا الموقف.
إضافة للعنصرين السابقين يرى المؤلف بأن تطابق السياستين يعكس دائما تنامي وتشابك المصالح على كافة الصعد بين الدولتين. ويعتبر أن تدرج العلاقات نحو الأفضل ترافق مع ازدياد التوتر خلال الحرب الباردة. ثم يستعرض الموقف تجاه القضية الفلسطينية بدءا بعهد زوزفلت الذي تعهد للملك السعودي (1945) باستشارة العرب وعدم إتخاذ أي موقف مستفز لهم، ومرورا بالرئيس ترومان الذي تخلى عن هذا الموقف بناء على حدس سياسي ومخالفا نصائح مستشاريه الذين أطلعوه على وثيقة وتعهد سلفه، وأعرب ترومان بصراحة للوفد العربي الذي طالبه الالتزام بالوثيقة بأن «لا أصوات عربية في دائرتي الانتخابية». موقف ترومان أثبت صحته تاريخيا إذ كان على ثقة بأن الدول النفطية لن تتراجع عن الاتفاقات التي عقدتها مع الشركات الأمريكية،فالبقاء في سدة الحكم هو الهمّ الرئيسي لها. رغم مقاطعة 73 والتي تم احتواؤها.
بناء على سياسة ترومان سارت الإدارات الأمريكية وأدارت الظهر لكل تطلعات الشعوب العربية وحتى الآن، ويعزي المؤلف السبب إلى غياب الديموقرطية كونها الآلية التي تعكس وتلبي رغبة المواطن العربي. فعندما تحل مصلحة العائلة ومصالح أرباب النظام محل أصوات الناس يُفقد الأمل بموقف ضاغط لدعم عدالة القضية الفلسطينية.
اللحظات التاريخية التي يتناولها الدكتور خالدي هي ما يحاول البناء عليها ليستنتج النمط السياسي المتكررو المتراجع لمواقف الإدارات الأمريكية المتعاقبة.واللحظة الأولى تبدأ منذ مغادرة المقاومة الفلسطينية بيروت عام 82. ويعتبر هذا الخروج برأيه إحدى الفرص التي كان يمكن للولايات المتحدة أن تمارس فيها دور الراعي النزيه للوصول إلى حل من خلال تنفيذ ما تم تبنيه في كامب ديفيد مع مصر لإعطاء الفلسطينيين استقلال ذاتي ضمن الأراضي المحتلة عام 67، وهنا تنبغي الإشارة إلى غياب أي تمثيل فلسطيني في هذه المحادثات تتعلق بمستقبلهم. إحدى الوثائق وهي عبارة عن رأي أحد المسؤولين في السي أي آي، يستنتج بأن بيغن لن يقبل بأي شكل من الأشكال أية صيغة للحكم الذاتي للفلسطينيين إذ أن هذه السياسة كانت شعار حزبهالرئيسي عام1977. طبعاكانت النتيجة فشل ذريع لخطة ريغان بعدما استجابت الولايات المتحدة لتفسير بيغن للاتفاق، وان الاستقلال الذاتي هو عبارة عن حكم إداري للسلطة الفلسطينية، وينحصر فقط بإدارة شؤون المواطنين، أما الإشراف على الارض والماء والحدود والثروات والأمن فإن مصيرها والسلطة عليها للدولة الإسرائيلية، إذ لا مجال إطلاقا لولادة استقلال ذاتي كمقدمة لكيان سياسي أو لحق تقرير المصير.هذا هو مبدأ بيغن الذي يتردد كثيرا في صفحات الكتاب كونه أصبح السقف والمرجعية السياسية التي لا يمكن تجاوزها حتى يومنا هذا من قبل أي إدارة أمريكية حسب استنتاجات المؤلف. في هذا الفصل يشير أيضا إلى مدى امتعاض اسرائيل من أي محاولة للاتصال مع منظمة التحرير من قبل الإدارة الأمريكية حتى ولو كانت للضرورات الأمنية في غرب بيروت خوفا من أن يتطور ذلك للاعتراف بها كممثل لشعب فلسطيني، وفي هذا الإطار يندرج اغتيال القيادي في فتح والمنظمة أبو حسن سلامة من قبل إسرائيل.
اللحظة الثانية هي المحادثات الثنائية الفلسطينية ـ الإسرائيلية التي أعقبت مؤتمر مدريد والتي تم وأدها عندما برزت محادثات أوسلو إلى العلن والتي توّجت بلقاء عرفات ـ رابين عام 93. الوثائق التي بحوزة المؤلف كونه أحد المستشارين للوفد الفلسطيني، و بحوزة أحد طلابه وزملائه كشفت حقيقة التنسيق العالي المستوى بين الوفدين الأمريكي والإسرائيلي. وفي هذا الفصل يعرض المؤلف الأسباب التي دفعت بعرفات لسلوك طريق أوسلو ويشير إلى نتائجه الكارثية بحق الفلسطينيين و قضيتهم. ويستنتج بأن مصير عرفات كان نتيجة مراهنته على إمكانية تطويرمفهوم مبدأ بيغن بما يلبي الحد الأدنى لتطلعات الفلسطينيين وعلى أمل تغير في موازين القوى لفرض هذه المعادلة.في الجهة المقابلة كان إسحق رابين من الموافقين على جوهر مبدأ بيغن ولكنه قضى ضحية محاولة تلميعه أو توسيعة دون المساس بالجوهر. في هذا الفصل يشير المؤلف لبدايات التدهور النوعي لمسيرة الثورة الفلسطينية وبداية تعثرها على مختلف الصعد في مقابل النجاح الإسرائيلي في نهش الأرض وتهويد القدس والتوسع بالمستعمرات.
اللحظة الثالثة هي عهد الرئيس أوباما في 2009-2012 . في هذه الفترة واجه أوباما ضغوطا مزدوجة من نتنياهو والكونغرس للتخلي عن ما بدأه في السنين الأولى من عهده (الوعد بتفيذ حل الدولتين. مهمة جورج ميتشيل . خطابات القاهرة وإسطنبول). الاستجابة لهذه الضغوط كانت سريعة ومفاجئة وخيبت الكثير من آمال العرب والمسلمين.
في قراءته لهذه الحقبة يعرض المؤلف للأسس الإيديولوجية لشخص الرئيس أوباما المبررة لتبني سياسة داعمة لإسرائيل وبشكل غير مسبوق، مقارنة بأي رئيس آخر. خاصة وأنه تراجع عن مواقف الإدارات السابقة المتعلقة بالقرارات الدولية، ورضخ لأجندة اليمين الإسرائيلي وداعميها في الكونغرس، ومما يسوقه المؤلف بأن السياسة الخارجية الأمريكية تبدو وكأنها من ضمن صلاحيات الرئيس الواسعة ولكن في الحقيقة ملجومة بالوقائع السياسية، و يلاحظ عدم انغماس أي من الرؤساء الأمريكيين وعن قصد في العمل جديا لحل القضية الفلسطينية، فليس من دافع محلي يدفع بذلك، بل اقتصرت جهودهم على إدارة الأزمة لمصلحة إسرائيل.
في الفصل الأخير «بعنوان محامي الدفاع عن إسرائيل» يستعرض المؤلف مواقف الرؤساء الأمريكيين منذ كارتر وحتى الآن في مواقف تثبت في نتائجها العملية الانحياز الكامل والدعم اللامحدود لإسرائيل، لم يغفل الكاتب مواقف تحد من قبل بعض السياسيين (جيمس بيكر، جورج شولتز، كارتر…) للإدارة الإسرائلية وهم ليسوا بالضرورة من المحبذين للمطالب الفلسطينية. ورغم ذلك يستنتج بأن الموقف الأميركي بإداراته السابقة وحتى اليوم ومنذ كامب ديفيد يعتمد شعار بيغن الرئيسي بأن «لا استقلال ذاتي للشعب الفلسطيني، بل إدارة مدنية على المواطنين ليس أكثر» أو كما و صفها شلومو كازيت أحد مستشاري إسحق رابين في إحدى الوثائق: «بأننا نريد من الإدارة أن تكون لحد أو سوبر لحد».
أخيرا يرى المؤلف بأن المصلحة الأمريكية وعلى المدى الطويل تتطلب الاستقرار في منطقة الشرق الأوسط المصدرة للطاقة، وحلول سلم إقليمي يستجيب لتطلعات شعوبها. بدلا من ذلك ما زالت الولايات المتحدة تساهم في تعميق مأزق المأساة الفلسطينية بتأبيد سياستها وبنائها على مبدأ بيغن المغلف بعبارة «عملية السلام» التي تغطي بشاعة القضم والهضم لحقوق الفلسطينيين وتفرض عليهم تراجعا تلو الآخر والغريب أن مسؤولي السلطة في الضفة وغزة يعرفون ذلك تمام المعرفة.
تطالع القارىء في المقدمة عبارة جورج أورويل «إذا كانت الأفكار مفسدة اللغة فإن اللغة مفسدة الأفكار أيضا» وهي مناسبة للإشارة للتضليل الهادف من ترديد «عملية السلام «أو «مسار الدولتين»، في المقابل يبدو عمل الدكتور رشيد خالدي مفعما بحقائق مؤلمة مع الأمل بأن تتوفر لدى المهتمين بمسارات القضية الفلسطينية أو النخب مساحات للنقاش لما يطرحه علّها تفضي لممارسة وفهم سليم للسياسة واللغة.