«عرب البحر» لجوردي استيفا وترجمة طلعت شاهين…الطريق إلى هويّتنا المنسيّة

الجسرة الثقافية الالكترونية
#شهلا العجيلي
لعلّكم تساءلتم يوماً عن مصير السفن (العَدوليّة)، وسفن (ابن يامن) التي خصّها طرفة بن العبد بالذكر في معلّقته، أو عن السفن التي أكّد عمرو بن كلثوم بأنّه سيملأ ظهر البحر بها في تهديده لعمرو بن هند، وربّما انتابكم فضول لمعرفة مصير ورثتها، الذين تلاشت ثقافتهم في وجهها الأزرق البحريّ، وصاروا عرب الصحراء. إنّ الجواب المأمول تجدونه في كتاب «عرب البحر» للكاتب الإسباني جوردي استيفا، الذي يطمح كل كاتب إلى أن يضع خلاصة رحلاته في مدوّنة مثل مدوّنته هذه، كما يطمح إلى أن يجد مترجماً كالمصريّ طلعت شاهين، الذي وضع الكتاب بين يدي المتلقّي العربيّ، بمنتهى الاتّساق بين روح الثقافة، وجسد اللّغة ورؤية الكاتب الرحّالة.
يبدو العنوان بعيدا عن النمط، إذ العرب للصحراء، لا للبحر، ويحمل هذا الابتعاد دلالة المغايرة، التي تعتمدها فكرة تدوين الرحلة، فليس ثمّة جدوى من الكتابة برؤية الآخرين، والذين كثيراً ما شدّوا رحالهم إلى هذا الشرق، ليقصّوا آثار الأنبياء في الرمال، ويسمعوا ضجيج نجوم الصحراء، لتوصلهم إلى شاطئ المتوسّط الشاميّ، أو المصريّ، أو المغاربيّ، لكنّ جوردي استيفا يتبعهم إلى حيث سلطناتهم البائدة في شرق أفريقية، التي انطلقوا في تأسيسها من موانئهم في الجزيرة العربيّة، ووصلوا بها إلى زنجبار، الموطن الأصليّ للسندباد، وسيجلّي لنا الكاتب المعنى العميق للميناء، إنّه ليس ماءً ورصيفاً وسفينة وبضاعة، إنّه عمليّة مثاقفة حضاريّة، تصنع بشراً جدداً وعالماً جديداً.
تمتلك رحلة جوردي استيفا في «عرب البحر» الثيمات الأساسيّة للكتابة التي تنضوي تحت عنوان أدب الرحلات، من محفّز الرحلة، إلى الهدف، ففكرة المغامرة والمعرفة والعجيب والغريب والفانتازيّ.
تبدو المغامرة التي هي صنو المعرفة دائماً، في أن تغادر أوروبا إلى بلاد محكومة نظريّاً بالمرض والمخدّرات والسلاح، وأن تكون مستعدّاً للمبيت في العراء مع وحوش مجاهل جنوب السودان، كاستعدادك لقضاء ليلة في فندق بنجوم خمسة، مثل فندق البستان في مسقط، وأن تركب حماراً، مثلما تركب طائرة، لتكتشف في ما بعد أنّ الميليشيات في تلك البلاد القصيّة، يبتدعون مخاوف كثيرة لتكون تمائم تصرف أنظار العالم عن ثرواتها، كما يخترع أهلها حكايات الجنّ لإبعاد القراصنة والطامعين. لقد أصيب استيفا شخصيّاً بالملاريا (مرض الرحّالة المحتمل) في «ماكاو» شمال جوبا عاصمة جنوب السودان، لكنّ ذلك لم يمنعه من اصطياد فرس النهر، ومصاحبة قبائل الدنكا، التي تصيد الوحوش وترتاب من استغلال الأوروبيّين.
يحفظ الرحّالة خريطة رحلتهم التي يرسمونها مع بدايات تشكّل الذاكرة، في مستودع الأحلام، لذلك كانت خريطة استيفا ترتسم منذ طفولته، حيث كان الغجر الرومان يحطّون كلّ صيف في ساحة قريته الإسبانيّة، بشاحنتهم المحمّلة باسطوانات سينمائيّة، تعرض على ستارة بيضاء «مغامرات السندباد»، لكن كثيراً ما تتغيّر الخريطة، ويتحوّل الطريق.
تنقسم رحلة استيفا إلى طورين، بينهما خمس وعشرون سنة من الأحلام المعلّقة، بسبب وشاية ألقت به في معتقل سياسيّ في القاهرة، حيث تعرّف إلى كتّابها صنع اللّه إبراهيم وإبراهيم عبد المجيد، وكوّن معارف سيستثمرها على طول رحلته، التي يبدأ طورها الأوّل عام 1977، من القاهرة إلى السودان، ومنها يعبر البحر الأحمر إلى اليمن وشواطئ عدن، «عندما كان أكبر تحدّ بالنسبة للأنظمة العربيّة الديكتاتوريّة ليس التطرّف الإسلاميّ وإنّما اليسار»، وحيث أنّ ديدن الرحّالة هو النقد بالحكاية والمشهد، فقد رصد استيفا مقدّمات الوقائع، التي أفضت إلى الانقسام بين الخرطوم وجوبا، في السودان، وإلى ثورات الربيع العربيّ، متحدّثاً عن الأيدي الخفيّة، التي التقاها، والمتسترة بلباس المنظمات غير الحكومية، والهيئات الأجنبيّة المانحة للمال والحريّة. ليس صدفة أن يقتل الاستعمارعلى مرّ التاريخ المدن العجيبة، بحجّة الحداثة، ليبني مدناً على مقاس أطماعه، كما فعل الإنكليز بـ»سواكن» في شرق افريقيا، التي بدّلها ببور سودان.
ينتقل الكاتب من «سواكن» إلى ميناء «المخا» في اليمن، والمُخا أصل (الموكا)، وهو نوع من البنّ، وطعم للآيس كريم، ولون للأشياء، وقد لا نعرف أنّه عربيّ يمنيّ، وسنجد مفردات كثيرة غير تلك المفردة، ستثري معجمنا اللّغويّ ودلالاتنا.
لقد اكتشف الرحّالة في السودان، حيث يصير الدين مكوّناً مع غيره من مكوّنات الثقافة، قوّة الإسلام، في مجتمعاته التقليديّة الأصيلة، حينما عاش بين قبائل الهدندوة العربيّة: «عندما كنت أراهم يتوضأون ويصطفّون جميعاً مولين وجوههم باتجاه مكّة، ويتشاركون في الطعام القليل أو يتلامسون بأكتافهم حول النار، كنت معجباً بعلاقاتهم الأخويّة العميقة في ما بينهم، ويمنحون ذلك الإحساس بأنّهم معاً يمكن أن يكونوا للحياة معنى».
وانطلاقاً من ملاحظاته الأنثروبولوجيّة الثقافيّة استطاع أن يلمس الفرق بين الأصيل الفطريّ، والمشوّه، فميز بين أنواع الدعاة، المنفّر، والمحبّب، وأصوات المؤذّنين، ومقرئي القرآن الكريم، مثلما لمس في رحلته إلى اليمن مقدّمات البعثة النبويّة ممتزجة بحكايات عرب سبأ ذات النكهة الأسطوريّة الساحرة.
يبدأ الطورر الثاني من الرحلة عام 2002، فيرتحل من دبيّ إلى عُمان (سويسرا الشرق) بالطائرة، وباستضافة رسميّة، بحثاُ عن ممالك العرب العاربة في شواطئ أفريقية الشرقيّة، فينتقل من ظفار، إلى زنجبار، ليقوم بما يسمّيه (الرحلة داخل الرحلة)، إذ تأخذه الأحلام إلى عالم نائم في الكتب، إلى شبه جزيرة موسندم، ثمّ إلى قلهات البائدة، التي قال عنها ابن بطوطة في كتابه «الرحلة»: «لو كان العالم خاتماً لكانت قلهات أيقونته»، التي قضى عليها البرتغاليّون، ثمّ الزلازل. يتابع رحلته التي صادفت شهر رمضان المبارك، إلى «صور» موطن سفن الضو، أي السفن الشراعية العربية القديمة، ثمّ إلى زنجبار لؤلؤة ممالك العرب هناك، ومحرقتهم أيضاً، وبعدها إلى مومباسا، ولامو.
تقدّم المعارف في جزء كبير منها برواية شخصيّات الرحلة، الذين لا يتوانى الرحّالة في أن يفتح لهم قلبه، فيشجّعهم على الحكي، سواء أكانوا من أصحاب روايات المتن، أم من أصحاب روايات الهامش، وبذلك يكون قد جمع بين تاريخ الضحايا، وتاريخ المنتصرين، متتبّعاً ردود أفعالهم الثقافيّة، بالدقّة ذاتها التي يرسم فيها ملامحهم الأنثروبولوجيّة، ونجده قلّما يقحم ذاته في حكايات أولئك البحّارة والممسوسين والمثقّفين والصيّادين والتجّار والشيوخ، لتشبه مدوّنته النصّ الروائيّ في دراميّته التي ينتج بعضها عن الرؤى المتعارضة والاستشرافيّة، لشخصيّاته: «العالم العربيّ سوف يتغيّر عندما ينتهي البترول»، و»الثورة تعني قتل العرب»، و»تنزانيا التي تشكلت على دماء 17 ألف عربي، وترحيل 200 ألف منهم»، و»الأيدي الخارجيّة لثورة زنجبار»، و»لأوّل مرّة في التاريخ تنقلب المفاهيم، ويتحوّل السادة إلى عبيد، كان هناك الكثير من الكراهية، البلجيكيّون والإنكليز والبرتغايّون والفرنسيون والإسبان، كلهم كانوا تجّار رقيق، ولكن كلّ هؤلاء نفضوا أيديهم.. الجميع عدا العرب».
لابدّ للرحالة في بعض رحلته من التماهي مع أهل البلاد الأصليّين، ذلك هو الجزء الإنسانيّ من كتابة الرحلة، لقد سلّم نفسه لمعتقداتهم القدريّة، ولعالمهم المرسوم بريشة الجنّ والسحرة، ولاذ بدموعه من أصوات الغرقى والعبيد: «ما الذي دفعني إلى تلك الأماكن؟…إنّه المكتوب».
لا يمكنّني أن أقدّم توصيفاً لمدوّنة جوردي استيفا «عرب البحر»، التي ما كانت لنا لولا أن قدّمها الدكتور طلعت شاهين، بهذا السبك الشائق، أبلغ من قولي إنّها رحلة مُلهِمة، وأنّها كتبت برؤية الصدام النسقيّ بين المُستعمِر والمُستعمَر، لتفتح لنا طريقاً إلى هويّتنا المنسيّة، وتجعلنا نتساءل عن الأسباب وراء حرماننا من ثقافة البحر السمحة والمتعدّدة والغنيّة، لصالح ثقافة الصحراء الواحديّة والإقصائيّة والشحيحة، فتصير أيقوناتنا ضبّا ويربوعا وبخورا ونجمة حمراء ونيرانا أغريقيّة.
ربّما كان الهدف وراء التغييب تجاوز إشارات تشظّي الهويّة، التي نعاينها اليوم، وعاينها قبلنا عرب شرق افريقيا، الذين أفصحت سلالاتهم عن مصائرهم التراجيديّة: «قبل سنوات كانت العائلات القديمة تقول عن نفسها إنّهم سواحيليّون، فقد كنّا نشعر بأنّنا عرب، ولكن بعد الاستقلال، بدأت الهويّة السواحليّة تتأكّد، فلم نعد عرباً وإن كانت الدماء التي تجري في عروقنا عربيّة».
«صدر «عرب البحر» عام 2014 في «سنابل للكتاب» ـ القاهرة »
…………
القدس العربي