عرض «لا شيء من أجل شيء».. رقصة الظل

الجسرة الالكترونية الثقافية-السفير-
كان عرض «لا شيء من أجل شيء»، الذي قدم أمس الأول في مسرح المدينة، في إطار مهرجان الرقص المعاصر، أي فن غير الرقص، إذ حضر الاستعراض المتنوع بين الاشتغال على مساحة المسرح والتمثيل والموسيقى والرسم وحتى فنون الكترونية مختلفة. أما الرقص فلم نرَ منه سوى لقطات فوتوغرافية جامدة… ومع ذلك كان العرض ممتعاً.
الرقص الذي قدمه الثنائي، النرويجي هيني أفدال والياباني يوكيكو شينوزاكي، لم يبدُ محمولاً تماماً من الخارج، فقد طُعِّم بلبننة واضحة، بمعنى أننا سمعنا في العرض أصوات اللبنانيين ودردشات الشارع وضجيج السيارات والإسعافات وقراءة القرآن الكريم والكثير من لهاث الأحياء والأزقة في لبنان.
نقف أمام المشهد الأول، وقد بدأ بأربع ستارات محمولة ببالونات منفوخة بغاز خفيف يرفعها دائماً إلى الأعلى. خلف كل ستارة يختفي راقص. وقد بدأ رقص الستائر «بالنيابة»، مع موسيقى مناسبة للباليه. ووجدنا أنفسنا أمام ستائر ترقص بدلاً من الراقصين الأربعة. ما يجعلنا أمام إشغال مختلف للمكان، وأمام رقص مختلف مع أحجام الستائر، وأمام لعبة غموض وتخفٍّ بدأت تنكشف شيئاً فشيئاً، عندما بدأت تظهر يد راقص أو قدم أو لون لباس، حتى انكشفت اللعبة تماماً، فانتقلنا إلى مشهد آخر يتوسع فيه المكان، فتتخطى الستائر الخشبة إلى الصالة، كأن اللعبة لعبة مطّ المكان وتحويله من مساحة ضيقة إلى مساحة أوسع.
المشهد التالي بدا منقطعاً تماماً عن الأول، عندما أصبح الراقصون بلا ستائر، وباتت حركتهم مكشوفة، لكن بقيت لعبة التخفي مستمرة، عندما صار الرقص في العتمة، وكلما اشتعل الضوء تجمدت حركة الراقصين، وتحولت وقفتهم إلى لحظة فوتوغرافية، إلى مجرد لقطة تنتظر العتمة ليختفي الراقصون خلفها من جديد… وهكذا يستمر الرقص في العتمة. يستمر تغييب الرقص وحضور ظله أو أثره، أو السخرية منه، أو حتى شكله المريض أحياناً، بعيداً عن أي بهجة. إذ عليك أن تفتش عن المتعة في مكان آخر، بعيد عن الرقص التقليدي وحرفته، عن التكرار الممل، عن الفتنة العابرة والزائلة. عليك في هذا العرض أن تبحث عن متعة لا تبقى أمام رموش العين فقط، إنما أراد الثنائي أدفال ويوكيكو أن تكون داخلية أكثر، من دون أن يلغيا أثر الإدهاش واللعبة السحرية في العرض، لكن أيضاً من دون أن يتعطل التفكير، فالتحليل والربط ومحاولة هضم المشاهد هي جزء أساسي في المتعة.
كان المشهد الأخير أكثر أثراً، عندما رأينا بالوناً مضيئاً يخرج من العتمة متبوعاً بأنفاس آدمية، وقد راح يتقدم نحو المشاهدين شيئاً فشيئاً. ظننا أن راقصاً يحركه، إلى أن تبين أن البالون مسيّر الكترونياً بـ«ريموت كونترول»، ليتبعه بالون ثان وثالث… وتاسع، وقد راحت كلها تتخطى مرة ثانية مساحة الخشبة، لتتحول القاعة كلها إلى مساحة مفتوحة لحركة «الراقصين الجدد» بالنيابة أيضاً. وقد حمل كلٌّ من البالونات تلك تسجيلاً من شوارع بيروت وربما سواها، واختلطت الألسن، بل صارت الألسن أو الأصوات هي التي تملأ المسرح «رقصاً».
ومرة ثالثة ورابعة كانت مساحة المسرح تتسع، لا لتتخطى الخشبة وحسب، إنما لتتخطى المسرح كله، بل تتسع لمدينة.
كنا، لا شك، أمام تحولات مركبة، وعرض مكثف، يبدأ بالموسيقى الكلاسيكية، وينتهي بـ«موسيقى» الشارع، ثم يبدأ بالباليه وينتهي برقص «الكتروني»، ثم يبدأ بخشبة فارغة تنتصب فيها الستائر لينتهي بمسرح مرن يستوعب الداخل والخارج. ثم هو يبدأ بستائر تهتز وينتهي بالكثير من الاستعراض الفاتن، الذي جمع بن فتنة العين وفتنة الأبعاد الداخلية.
هو عرض يستقر أثره فيك… وإذا أردنا أن نفهم بالتالي أي رقص شاهدنا، أو ما معنى هذا الرقص المعاصر الذي قُدم لنا، فإن ذلك الأثر الذي لمّا يزل يستمر في «الرقص» داخلنا هو الجواب الشافي!