عقد إلهام خفي بين الكاتب والقارىء

الجسرة الثقافية الالكترونية

 

من الإشكاليات المتعلقة بفن الكتابة والاستفهامات الفلسفية الكبيرة في الأدب هو السؤال الكبير: لمن يكتب الكاتب؟ ومن هو القارئ الذي يحضر في ذهنه وهو يخط كلماته، وهل قارئه المتخيل يحد من حريته ويضيق عليه فضاءه الإبداعي عندما يتحسب الكاتب لشروط القارىء المتخيل ويكتب لإرضائه ونيل استحسانه وإعجابه، أم يطلق القارىء المتخيل ذهنية اللحظة الإبداعية عند الكاتب من عقالها إلى فضاءات الحرية ولا يجعل من سؤال: كيف أرضي قارئي؟ انشغالا ملحا لدى الكاتب بقدر ما يمنحه القدرة على الانعتاق من قيود الاستفهامات المربكة التي تتعلق بمدى القبول والاستجابة التي قد يتلقاها من قارئه.

 

تحديد الكاتب لقارئه المتخيل لعبة يمارسها كبار الكتاب في العالم، حتى يرصدوا من خلالها انفعالات قرائهم ويترقبوا آراءهم ومدى رضاهم بما يكتبون،حيث يبدو من الضروري للكاتب أن يحدد قارئه الذاتي وشريكه الخاص في عملية الكتابة فقد يكون أبا، أخا، صديقا، حبيبا، وربما يكون قارئا خياليا في الذاكرة لا يحمل صفة قرابة أو صفة عاطفية لكنه جزء مهم في العملية الإبداعية، وهو الملهم حين يستحضر الكاتب وجوده في الكتابة، وهو الناقد المفترض الذي لا تظهر دلالته الوجودية في النص، فجزء من القارئ المتخيل يعيش في ذاكرة الكاتب، والجزء الآخر يعيش خارج لعبة الكتابة، حيث يكون قادرا على قراءة النص ضمن شروط عقد الإلهام الخفي بينه وبين الكاتب.

 

وتفقد اللعبة الإبداعية قواعدها وشروطها عندما يستحضر الكاتب القارئ عند الكتابة مثل استحضار الرقيب على النصوص الأدبية في المؤسسات الثقافية، وعندما تتقيد الكتابة بقارئ يعمل عمل الرقيب فإنها تصبح غاية وظيفية، قبل أن تكون فعلا جماليا مغيرا ومغايرا في الوقت نفسه، فالكاتب الذي يشرك القارىء في كتابته يفترض الكفاءة الجمالية والفكرية عنده أو على الأقل يعطيه الحد الأدنى من الفطنة حتى تصل إليه شيفرات النص ومفاتيحه.

 

وإذا كنا نستطيع تقسيم العملية الإبداعية إلى قسمين فإن القارىء يحظى بالجزء الأكبر من هذين القسمين حيث يكون في الجزء الخاص بكتابة النص حاضرا كشريك، وفي الجزء الخاص بالقراءة يكون البطل الذي يتفاعل مع محيط النص ويتأثر حسب ذائقته الأدبية وميوله وحساسيته بالعالم المتخيل الذي شكله الكاتب في نصه، وبذلك فإن ما يقرأه هذا القارىء ويلقى استحسانه ورضاه يحدد ملامح شخصيته الإنسانية ويعطي مؤشرات نفسية على عالمه الداخلي وأجوائه الروحية الخاصة كما يقول علماء النفس والاجتماع الذين يعتقدون أن قراءة الأدب بكل أشكاله نشاط إنساني تحدد من خلاله توجهات القارىء وملامح شخصيته ونفسيته.

 

ويؤمن الكثير من النقاد والكتاب بوجود هذا القارىء الشبح الذي يقف فوق الأوراق ويدقق بعينيه كل كلمة يكتبها الكاتب، ويؤمنون أيضا أن العلاقة معه علاقة سيكولوجية معقدة لكنها تميل إلى إمداد الكاتب بروح متحدية تجعل من القارىء المفترض الحلقة الضرورية لاكتمال المنجز النصي وتحقيق شروطه الفنية، فالقارىء المتخيل في نظر النقاد هو الكائن الذي يستمد منه النص والكاتب الهواء الضروري لنموه وإبقائه على قيد الحياة.

 

هذا هو القارىء الذي يريده الكاتب، قارىء مرن ومنفتح صاحب حس جمالي يستطيع قراءة النص الإبداعي بكافة أشكاله ضمن شروطه الفنية التي أرادها الكاتب كحد أدنى من القراءة، وباكتشافات جديدة وقراءات تصعيدية أخرى تمسك بذرى أخرى من النص وتحاول صعودها كحد أعلى من القراءة.

 

على الكاتب، كما يقول معظم الكتاب حين يسئلون عن الوقت الذي يجب عليهم أن يتوقف عن فعل الكتابة، أن يتوقف عندما يفقد ملهمه الإبداعي، قارئه المتخيل، شريكه الذي تعاقد معه بعقد خفي تحت طائلة الإبداع بشروط تضمن التجديد والإضافة الدائمة وعدم اجترار المواضيع واجتراح كل ما هو مختلف واستثنائي، على الكاتب أن يتوقف عندما يخل بشروط عقده مع قارئه الملهم ويقف عاجزا عن إدهاشه ويفقد روح تواصله معه.

 

المصدر: ميدل ايست اونلاين 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى