على الشاعر أن يكون حذرا من إغراءات الذاكرة حتى لاتتحول القصيدة إلى مأتم

عبد اللطيف الوراري
صلاح فائق شاعر عراقي مجدّد، عُدّت مجموعته الشعرية «رهائن» أحد فتوحات القصيدة الحرة الجديدة. عاش بين كركوك وبغداد، قبل أن يهاجر إلى لندن. بعد حرب الخليج الأولى، فيمّم بوجه غربته إلى الفلبين متواريا عن الأنظار، قبل أن يظهر فجأة ويؤكد مداومته على جذوة الشعر. تجربة المنفى، أو بالأحرى خصوصية العيش في الفلبين، علمته أن يظلَّ طفلا، يكتب بروح الطفل ويتودّد إلى الحيوانات التي أنس لها بقوّة الخيال، ويوزّع منشورات سرية في جزيرة لا يسكنها أحد.
إلى اليوم، لا ينسى صلاح جماعته من شعراء كركوك من أمثال سركون بولص وجان دمو ومؤيد الراوي وغيرهم، الذين عاشوا عصر الشعر بكلّ مفاجآته. قال: «لم يكن سهلا. فقدنا الأهل، المدينة، الوطن. وها نحن، واحدا بعد آخر، نفقد حيواتنا أيضا. لكننا كسبنا الشعر. وهذا الأهم في رأيي». يقرأ صلاح للشعراء الذين جاءوا بعده بلا أبوّة أو وصاية مزعومة، ويفرح لهذا وذاك ممن وجد في نصّه شيئا ذا بال. وأسلوبه في الكتابة مغرٍ بالتقليد، لكن لا أحد يستطيع ذلك. ثمة عقدة ما بين كلماته: «العقدة هي أنا، تلك البذرة الملعونة».
هذا الحوار معه مهمٌّ ونادر، لأنه يضيء جوانب أساسية في تكوين هذا الشاعر وأسلوب قصيدته وثقافته الجمالية.
■ اختفيت لفترة طويلة بعد اختيارك المنفى الفلبيني، ثم ظهرت من على صفحتك في الفيسبوك، حيث واظب قُرّاؤك منذئذٍ على قراءة أشعارك يوميّا. أين كان كل هذا الحبر محتبسا؟ هل هو جواب على شرائط العزلة هناك؟ أم واجب يوميّ لحياة جديدة ومتخيّلة في آن؟
□ نعم، بقيتُ فترة لأرتب حالي في بلد جديد على كل مستوى، ثم اهتممت بالبيئة التي كانت مختلفة عن بيئات أخرى أقمت فيها. فهذا البلد بلا شتاء أو برد، إذ الجزر الفلبينية لا تعرف إلا موسم الأمطار وفصل الصيف. إضافة إلى كثرة اللغات في هذا البلد، والأعراق والقوميات. بعد مرور بعض الوقت عدت إلى الكتابة دون أن أعرف ماذا سأفعل بها. عشت هنا حياة مختلفة تماما مقارنة بإقامتي في بلدان أخرى، من حيث غنى هذا البلد تاريخيا وثقافيا. بقيت أكتب لحوالى عشرين سنة، دون أن أنشر حرفا واحدا في أي مجلة أو صحيفة أو موقع ثقافي عربي. لم يكن يهمّني أن أنشر، بل أن أكتب فقط، إذ كانت لي مجموعات شعرية مطبوعة وحتى بالإنكليزية. كان موقفي أن لا أنشر في أي موقع عربي صحافي أو أدبي، لعدم تحملي الأنظمة العربية التي تمول هذه المواقع، فيما هي تخدمها في النهاية، إعلاميا وثقافيا.
بقيت لي علاقة محدودة بقلة أصدقاء، وقد عملوا جهدهم لإخراجي من تلك العزلة، بعدما عملوا – مشكورين- على دعوتي إلى مهرجان سيت الشعري في جنوب فرنسا. وقد رتبت لي إدارة المهرجان مجموعة مختارة من قصائدي، مترجمة إلى الفرنسية من قبل الشاعر صالح دياب. هناك فوجئت بلقاء عدد من أصدقائي الشعراء القدامى واحتفائهم بي، كما وجدت حماسا كبيرا للقائي من قبل عدد من الشعراء من البلدان العربية، واستمرار تأثرهم بمجموعاتي الشعرية السابقة ودعوتي للتواصل والكتابة.
حين عدت إلى الفلبين قررت إعادة النظر في الأعمال التي كتبتها في العشرين سنة، ولم يسبق لي نشرها. ومن خلال ترتيب صفحة لي في الفيسبوك، استطعت إعادة علاقات كثيرة والبدء بنشر تلك الأعمال وتواصل الكتابة اليومية. وجدت الفيسبوك ممتعا جدا ومحفزا على تجميع هذه الكتابات كل عدة أشهر في مجموعة، وكنت محظوظا في نشرها من قبل دور نشر معروفة، مع ما رافق ذلك من ازدياد الاهتمام بها. ما زلت أواصل هذه الكتابة، وقد حققت نشر عدد كبير من المجموعات خلال السنوات الست الأخيرة .
■ كانت مجموعتك الشعرية «رهائن» (1975) إحدى فتوحات قصيدة النثر العربية الأولى. ماذا بقي من تلك الصرخة في صحراء الشعر العربي وندائه الوجودي (المرتهن)؟
□ أنا أفضل مصطلح كتابة أو نصوص أو الشعر الحر، متجاوزا، أو محاولا تصحيح التعريفات التاريخية لهذا النوع من الشعر. بقيت الصرخة مستمرة في أنحاء البلدان العربية، لأنها أساسا من نتاج أوضاعها الاجتماعية والثقافية وغيرها؛ أي، حسب تعريف إليوت، كانت هذه القصيدة الجديدة المعادل الشعري والفني للحقائق الموضوعية، التي كانت راهنة آنذاك. هذه القصيدة لم تستنفد طاقاتها وتعبيراتها بعد، لأن معادلها الموضوعي مازال كما كان، إن لم يصبح أسوأ مما كان عليه قبل نصف قرن. وهذا مدهش، إذ يبدو أن الأوضاع العربية لا تتغير أبدا، أو ترفض أن تتغير إلا نحو الأسوأ. لذا أرى أن الأعمال الطليعية التي ظهرت في الشعر والقصة القصيرة والمسرحية، أثناء سنوات الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي، خصوصا من قبل مجموعة كركوك وغيرها في العراق ومصر، سوريا ولبنان، ما زالت مؤثرة بسبب طابعها النقدي والثوري، وانطلاقها من الحداثة العالمية في الكتابة، التفكير والأسلوب الشخصي المتقدم.
■ شكّلْتَ مع سركون بولس وجان دمو وفاضل العزاوي ومؤيد الراوي وغيرهم (جماعة كركوك)، وقد استطاعت هذه الجماعة أن تعيد ترتيب أولويات الحداثة الشعرية التي كادت أن تستقرّ مع جيل الرواد، بله أن تكسر أسطوريّاته. ومع ذلك لم تأخذ هذه الجماعة حقّها في التداول الثقافي كما أخذته جماعات أقلّ خطورة. لماذا في رأيك؛ هل بسبب انحيازها المطلق لكتابة قصيدة (ليست ذات وزن) بمعنييه الشكلي والرمزي؟ أم بالنظر إلى انتماءاتها الأيديولوجية ولهجتها الكابوسية والتجديفية الساخرة؟
□ نعم، لم نأخذ حقنا في التداول الثقافي بسبب كوننا مجموعة يسارية تضم أعضاء من كافة الانتماءات الدينية والقومية والثقافية، وعلى الضد مما كان سائدا آنذاك من هيمنة الأفكار القومية وأوهامها. كنا جميعا، تقريبا، أعضاء في الحزب الشيوعي العراقي؛ أي أننا كنا معارضين سياسيا بشكل راديكالي. وبالطبع لا يمكن أن تكون حالة نقدية وثورية، وتتبنى في الوقت ذاته أساليب ومدارس شعرية وفنية تنتمي إلى اتجاهات ثقافية وشعرية مناقضة، عموما قومية وسلطوية. إذن، مسألتنا كانت أساسا أيديولوجية وسياسية، ثم جاء اختيارنا بشكل طبيعي للاتجاهات الأكثر راديكالية وحداثية في الكتابة الشعرية والأدبية بشكل عام. وبينما كان الاتجاه العام في الشعر هو تبنّي قضايا عامة كقضية فلسطين والوحدة العربية والتأميم، وعبادة وتمجيد القادة الفاشلين والطغاة، وكتابة شعر موزون ومقفى، يستجيب لهدف تهييج الجماهير بقصائد صاخبة وكتابات أدبية أخرى مملة، كنا نحن ندعو إلى كتابة يكون الشخص مركزها، من ناحية الهموم والتطلعات الشخصية وعدم السقوط في أكاذيب أجهزة الإعلام الصاخبة. لقد تم وضع عراقيل دائمة أمام نشر أعمالنا في الصفحات الأدبية للصحف اليومية والمجلات الأدبية. مرات قليلة نُشرت قصائد لي في العراق، وكذا بقية أعضاء جماعة كركوك، وأولئك الذين كانوا يبدعون بشكل كان يناقض الاتجاه السلطوي في الكتابة الأدبية آنذاك. ولكن رغم كل العوائق استطعنا تحقيق هدفنا الأساسي، وهو تثبيت اتجاهنا في الكتابة الأدبية والشعرية، قبل أن نهاجر جميعنا تقريبا إلى بلدان أخرى، لتفادي التعرض المهلك لسلامتنا الشخصية. لم تكن لنا مرجعية شعرية في شعر التفعيلة الواحدة الخمسينية، ومدرسة مجلة «شعر» البيروتية وغيرهما، كنا أصواتا مختلفة حتى ضمن مجموعاتنا الستينية من القرن الماضي.
■ في أحد حواراته، يذكر سركون أنه لما جاء إلى لندن كان شديد الاتصال بك. أخبرني هل كان لكم برنامج معلن مع غيركم من الكتاب المنفيين؟ كيف تصف لي حياتكم الخاصة هناك؟ هل اندمج سركون في منفاه الجديد، إلخ؟
□ بقي سركون في بيتي عدة مرات في لندن. أحيانا لفترة شهر.لم يكن لدينا أي برنامج للقاء آخرين من أجل قراءة شعرية أو لقاء أدبي. قضينا وقتنا في التسكع والثرثرة واستعادة ماضينا في كركوك وبغداد. في الليل كنا نقرأ قصائد لنا، ونتبادل بعض الانطباعات والآراء حولها. سركون يقرأ أو يكتب في الليل، مثلي، حتى الصباح أحيانا. وكنا نقضي الأمسيات في مشاهدة التلفزيون، أو لقاء بعض الأصدقاء في لندن. لم تكن لندن منفاه، وإنما فرحه وضحكه وتسكعه ومشاهدة مكتبات. وكنا في زيارة دائمة إلى المتحف البريطاني لزيارة آثار أجدادنا الأوائل من السومريين والآشوريين. كان يريد أن يكتب كثيرا عنها، لكنه لم يحقق ذلك، إلا أنه استخدم أجواء ورموز وشخصيات منها في قصائده. أحب عاملة في مقهى، وكان حقا مفتونا بها، لكن لم يظفر منها بشيء: كان يحلم كل الوقت دون أن يدري ذلك. بالطبع، كنا أفشل الناس في الطبخ، ومن حسن حظنا أن جيراني الإيطاليين واليونانيين كانوا طيبين للغاية معنا وساعدونا. كما كان يحلم بتوثيق الشعر العراقي بشكل خاص في كتاب، وبدأ يجمع مصادر ومراجع حول الموضوع، إلا أنّه كان حلما أيضا. التقينا أدباء وفنانين وشعراء، رؤساء تحرير صحف ومجلات ووعدهم بنصوص ودراسات. لم يتحقق هذا. أخيرا، سافر سركون إلى أثينا حيث بقي لسنة أو أكثر يعمل مترجما ومحررا في مشروع كتاب عبير للروايات المترجمة، عموما بريطانية وأمريكية. لكنه هناك شعر بالملل وهرب إلى أمريكا. استطعنا على كل حال ترتيب مجموعته الأولى «الوصول إلى مدينة أين»، و»كراس من باريس»، إضافة إلى مجموعة نشرت من قبل دار توبقال في المغرب بعنوان «الحياة قرب الأكروبول». كان الزمن بداية التسعينيات عندما انفجرت الأزمة في الخليج مع العراق، وما تبع ذلك من حرب. بقي فترة في باريس يترجم. بعد الحرب أفلست شركتي فهربت إلى تركيا، ومن ثم إلى الفلبين، حيث انقطع تواصلنا إلا لمرات قليلة في لندن .
■ منذ ديوانك «رهائن»، مرورا بـ»تلك البلاد» (1978)، و»طريق الى البحر» (1983)، ورحيل (1987)، وانتهاء بمجاميعك الجديدة مثل: «دببة في مأتم» (2013) و»آكل قصائدي في زقاق ضيق» ورباعياتي» و»مقاطع يومية» (2015)، نكتشف أنّ ثمة «عقدة أسلوبية» ـ إذا شئنا القول- تتوزع بين جموح المخيّلة التي تستضيء بعناصر اللاوعي وبين دفق الحس الحيواني البسيط، الذي يقطع مع أي لهجة نبوئية أو خطابة شعارية. هل هذه العقدة التي تنسج طوال الوقت هي نتاج حرمان متأصل لطفولة قديمة وبحث عــن أناشيد السلالة التي توزعت بين المنافي؟
ـ نعم نشأت في أسرة فقيرة، وبالطبع كنت محروما من مباهج كثيرة لهذا السبب. لا أدري كيف تظهر أشكال هذا الحرمان في كتابتي الشعرية، إذ إنني أتفادى قراءة تلك السنوات الغائرة برموزها، بمفردات علم النفس أو بمصطلحات النقد الحديث. قناعتي أن قراءة من هذا القبيل تعمل على عقلنة مخيالي وتؤثر على حرية صوري. سبق لي أن قرأت فرويد جيدا، ولفترة الحركات والمدارس الشعرية كالمستقبلية الإيطالية والروسية وغيرهما، وأبحاث النقد حول هذه المدارس والحركات. وقد سبب هذا الاهتمام توقُّفي عن الكتابة لأشهر أو أطول من ذلك. أنت لا تصير دادائيا، أو شاعرا صوفيا لمجرد قراءتهما تاريخيا وفنيا. الأمر يتعلق بغنى الحياة الشخصية والطريقة الشخصية المتميزة في التعبير عنها. لقد بدأت أستعيد الكثير من طفولتي ومراهقتي وأنا خارج وطني القديم، ولم يحصل هذا حين كنت هناك. في الخارج تنشأ ذاكرة أخرى لك، والبيئات الجديدة ستعمل على إغناء ذاكرتك، إن لم يكن على تغيير مخيالك وتوجهاته. من هذا التركيب الغني بالصور الجديدة والمشاعر حولها، إضافة –أحيانا- إلى حنان عميق إلى أشخاص ومشاهد من ماضيك، تظهر كتابة مختلفة تماما، مفاجئة، ومن الصعب تفكيكها إلى عناصرها الأولى من دون فقدانها. وتبقى وحدها معايشة هذه الكتابة والاقتناع بانطباعاتها الأولى، حسب تجربتي.
■ بموازاة مع ذلك، نجد أنّ ثمّة نصوصا متنوعة تكتب عبرها سيرتك الذاتية شعرا بما يقتضيه الشعر كخطاب مخصوص من ميثاق سيرذاتي نوعيّ. ما الذي يبقى من «الحقيقي» و»المرجعيّ» في سياق تدفُّق المخيّلة التي تهدم الحدود بين الشخصي واللاشخصي، بين المألوف والغريب، بين اليومي والسريالي، والجادّ والهزلي؛ أو بعبارة أوجز، بين الذاكرة والنسيان؟
□ القصيدة الحرة أو الحديثة بلا موضوع محدد، والأفضل أن تكون بلا عنوان، تماما مثل الموسيقى.هذا ما أرغب فيه وأنفذه منذ سنوات طويلة. تبدأ القصيدة بأي مفردة، وهذه تستدعي أخريات، مشاهد وصورا، أحيانا مجانية، لكن جميلة. وهذه تستدرج ذكرى أو حالة صديق أو أمّ، في حركة تشظٍّ، مع أقل ما يمكن من تدخل الشاعر، لتنبثق قصة قصيرة هنا، وحوار مسرحي في مقطع آخر لا نعرف من أين يظهر أو يتبدّى.
هناك جملة جميلة لجلال الدين الرومي مفادها أن ليس هناك خيالٌ في هذا العالم بدون حقيقة أو واقع. ويأتي كل هذا في سياق مبهر يتبلور ليس شعرا فقط، بل قصيدة. القصيدة مملكة تضم كل شيء، إنسانيا وطبيعيا. وما إن ينتهي الشاعر من هذا الترتيب، حتى تنقطع علاقته بالقصيدة، وتبدأ هذه الأخيرة بعيش زمنها الخاص الذي يحتوي الكثير من الأبدية أو اللانهاية. يبقى على القارئ إحالة القصيدة إلى حياته ليفهمها أو يتمتع بها.
هكذا إذن ينظم المخيال كافة مستويات وعناصر القصيدة في شكل متوازن، داعيا الشاعر ليضع نقطة الختام. لذا كرّرتُ حقيقة أن القصيدة أهم من شاعرها؛ فهي تبقى، وشاعرها يزول أو يتغير. القصيدة تستمد موادّها الأولية، إن صح التعبير، من هذا العالم، لكن تعيد صياغتها لتشكيل عالم مختلف تماما. وفي هذا سيرة الشاعر الجديدة، المشهد اليومي الذي يتضمن الكثير من الصور الشعرية، إلى جانب ما هو مجاني وعبثي.
■ إذا مثّلنا بمجموعتك الشعرية «مقاطع يومية» التي يخترقها سيل مدهش من الصور والاستعارات، يبدو لنا أنّ أنا الشاعر لها حضورٌ فرديٌّ وعينيٌّ مباشر «في- العالم»؛ «عالم الحياة اليومية» في مباذله وتفاصيله الصغيرة التي يعمل على شعرنتها حينا، والعبث معها والسخرية منها حينا آخر. هل كنتَ تكتب سيرتك المتخيّلة التي لم تَعِشْها، أو حُرِمْت أن تعيش امتلاءها؟
□ القصيدة الحديثة، في رأيي،هي قصيدة الحياة اليومية التي تضج بالحشود، مشاهد الجامعات والسجون والمباغي والأسواق والثكنات الكئيبة وغيرها.هنا يمكن للشاعر أن يرى وان يلتقط زخما هائلا من الصور تتدافع لتعبر عن نفسها. بعين الشاعر المرهفة يمكننا أن نرى أحوالا فردية وسط الجموع، وهذه بداية سيرتها الشخصية التي سيكملها الشاعر بقوة مخياله على مستويات عدة. شخصيا أختار صورا من هذا القبيل وأستخدمها في كتابتي، وتغلب عليها المفارقة، مما يضفي جمالا على المقطع الشعري. أنا أصنع من هذه الأجواء سيرة شخصية غير مكتملة ولا أريدها أن تكتمل. لأني إذا عدت إلى ماضيّ في محاولة لكتابه سيرة، فإنني أفشل بسبب كون هذا الماضي عبارة عن أحداث لم تعد تعني لي الكثير. لكن يمكنني إعادة كتابته بطريقة جديدة أساسها فعالية المخيال في قلب الأمور وتغيير الشخصيات والأحداث، بحيث تفقد صرامتها وتتيح للمجانية أن تلعب الدور الأول في إعادة الخلق هذه. إن حرية الشاعر والتأكيد عليها، هي في عمق هذا النشاط، ولذا أعتبره عملا ثوريا على كل مستوى. الشاعر هنا لا يتبع حتى ظله: يفترقان كل مرة، يلتقيان بعد إنجاز القصيدة أو اكتمالها.
■ إلى أيّ حد يصح القول –كما قال أحدهم- «إنّ لدي ذاكرة حيّة؛ لأني أنسى»؟
□ النسيان يحتفظ بقاع الزوارق القديمة، وهي سليمة ويمكن استعادتها من أعماق المحيط في محاولة لاستفزازه. على الشاعر أن يكون حذرا من إغراءات الذاكرة، فقد تعيق عمل المخيال وتحول القصيدة إلى مأتم. أنا عانيت من هذا في مجموعتي الأولى «رهائن»، إذ هيمن الواقع أحيانا والذاكرة في أحيان أخرى. تخلصت من هذه المصاعب حين بدأت أستوعب بيئتي الجديدة وأتيح لذاكرتي أن تتجدد. فبعد تصفية حساب قمت بها مع حياتي في بلدي القديم وذكرياتي المأساوية عنها، جاء الجديد في مجموعتي «طريق إلى البحر»، «مقاطعات وأحلام» وغيرهما. يمكن ملاحظة الاختلاف حتى من عناوين مجموعاتي الجديدة، وابتعادها عن ظلال وأجواء ذلك النسيان أو ما بقي منه.
■ يتراءى لنا وسط هذه السيرة الشعرية المتراحبة ما يمكن أن ننعته بـ»قلق الهوية»؛ هل تشعر بهذا القلق وأنت تكتب؟ أم أنّه في الأصل جزء من نسيج السيرة نفسه؟
□ لا أشعر بقلق الهوية. أنا اقمت في بيئات وبلدان مختلفة ومضى على ذلك أكثر من أربعين سنة، بينما عشت أقل من هذه السنوات في وطني. هذه السنوات الطويلة بعيدا عن بلدي الأول، في البيئات الجديدة بأجوائها الطبيعية والثقافية المختلفة وحياتي الشخصية، عملت على تشكيل ذاكرة أخرى لي، ومنحت لمخيالي فضاءات لم أكن أتوقعها، مما أغنى مفرداتي وتعابيري في كتابتي الشعرية.
■ هل لك طقوس وحالات خاصة لكتابة القصيدة؟ وهل تعود إليها من أجل تنقيحها وإعادة كتابتها؟
□ الاستمرار في الكتابة حالة تخلق طقوسها بمرور الوقت. أكتب حين أرغب في أن أكتب، ولا يهمني المكان أو الضجيج أو الجوع أو زلزال يمرّ أو بركان قريب يرمي حممه نحو بيتي. لكن المحيط، وهو صديقي، يُفشل دائما هذه المحاولات العدائية. لا أحب التنقيح أو إعادة الكتابة، وإنما أكتب قصيدة جديدة. ولا تهمني الثغرات أو مواطن الضعف في قصيدتي، فهي تعبّر عني. القصيدة إلى جانب أنها عالم مختلف عن عالمنا الراهن، فهي أيضا عرض لحال الشاعر، ولا معنى لهذا السبب لتحسين أو تزييف هذه الوثيقة .
■ إذا قُيّض لك أن ترجع إلى مدينتك كركوك، ما هي أهمّ العلامات التي تحلم بتفقّدها، أو بالأحرى تطمئنّ على عدم فقدانها كما تخيّلت في معظم شعرك؟
□ سأذهب لزيارة أمي، أظنها ما زالت تنتظرني، ثم أذهب إلى مدرستي الأولى. بعدهما، سألتقي أصدقائي جماعة كركوك ونشرب نبيذا في كنيسة شاعرنا الأب يوسف سعيد. بالطبع سأصعد قلعة كركوك السومرية، حيث مكان ولادتي، وأتوقع حشودا من السومريين والصعاليك. ثم أنحدر من القلعة لأبحث في كل مكان عن صلاح فائق الذي كان. ستساعدني في هذه الزيارة دراجتي الهوائية التي كنت اشتريتها في كركوك قبل خمسين سنة، بدينارين .
(القدس العربي)