“على هامش السيرة” يثير معركة عنيفة

الجسرة الثقافية الالكترونية

لعل أخطر المعارك الأدبية والفكرية التي دارت في العالم العربي في القرن العشرين اندلعت عقب صدور كتب مسّت مشاعر المؤمنين وأساءت إليها. يورد أنور الجندي في كتابه عدداً وافراً من هذه الكتب وما دار حولها من مساجلات فكرية، نارية حينًا وهادئة حينًا آخر.. ويستأثر الدكتور طه حسين بقسط من هذه الكتب التي كان صداها يتردد في أصقاع بعيدة عن مصر مثل الجزائر. ذلك أن مجلة “الشهاب الجزائرية” التي كان يرأس تحريرها الشيخ عبد الحميد بن باديس نَشرت بعد ظهور كتاب طه “على هامش السيرة” مقالاً حول هذا الكتاب ورد فيه: “ألّف طه حسين، آخر ما ألفّ، كتاباً أسماه “على هامش السيرة”، يَعني السيرة النبوية الطاهرة، فملأه من الأساطير اليونانية الوثنية، وكتب ما كتب في السيرة النبوية على منوالها، فأظهرها بمظهر الخرافات الباطلة والأساطير الخيالية، حتى ليخيل للقارئ أن سيرة النبي (صلى الله عليه وسلم) ما هي إلا أسطورة من الأساطير، وفي هذا من الدس والبهت ما فيه. ومن العجب أن قام كاتب في مجلة “الرسالة” يُطري هذا الكتاب ويجعله الدليل القاطع على أن طه حسين ما زال أزهرياً رغم كل شيء، فيقوم طه حسين في العدد التالي من “الرسالة” فيصدّق ذلك الكاتب فيما ادعاه له من رسوخ أزهريته وديانته، حتى يُظهر للقارئ للمقالين أنهما وُلدا في مجلس واحد. فالدكتور طه الذي يقول في الإسلام ما شاء ولا يُبالي بالمسلمين، أصبح اليوم بعد أن خرج من الجامعة يحسب للمسلمين حساباً، فلا يكتب إلا ويقول إنه مسلم وإنه يعظّم الإسلام، ولكن ما انطوى عليه صدره يأبى عليه الظهور كما بدا جلياً في كتابه الأخير.

 

وقال الدكتور زكي مبارك في يناير 1934 : “وأنا أوصي قرّائي أن يقرأوا هذا الكتاب بروّية فإن فيه نواحي مستورة من حرية العقل عرف الدكتور كيف يكتمها على الناس بعد أن راضته الأيام على إيثار الرمز في التأليف”.

 

ووصف الدكتور محمد حسين هيكل كتاب “على هامش السيرة” بأنه إحياء لأدب الأساطير.

 

أما إسماعيل أدهم فاعتبر أن طه بعد أن فشل في بث أغراضه عن طريق العقل والبحث العلمي لجأ إلى الأساطير ينمقها ويقدّمها للشعب إظهاراً لما فيها من أوهام تفتن الناس. غير أن انكشاف الغرض من وضعها صرف طه عن السير في إحياء أدب الأسطورة.

 

وفي كتاب آخر لطه حسين يقول زكي مبارك إن طه يعترف بأنه يلخّص كتبًا. “هذا اعتراف علماء، فلا يدّعي أنه أجهد فكره في غير التلخيص. وهو يفترع الأبحاث بقوة توهم بأنه المفترع الأول. وأن كتابه سيكون المصدر الأول لمن يتحدّثون عن هوميروس أو سقراط أو أفلاطون. لم يبتكر طه حسين كتابه هذا، ولكتابه نظائر في الأدب الأوروبي”.

 

وقال الدكتور طه حسين في كتابه “مستقبل الثقافة في مصر”: إن عقلية مصر عقلية يونانية، وإنه لا بد أن تعود مصر إلى احتضان فلسفة اليونان..

 

أما زكي مبارك فيرى أن الأفضل هو أن يعترف طه حسين بأن الفلسفة اليونانية منقولة عن الفلسفة المصرية.

 

وأثار كتاب طه حسين عن فلسفة ابن خلدون، وهو أطروحته لنيل الدكتوراه من جامعة السوربون، ردود فعل عنيفة. فها هو الدكتور عمر فروخ يتساءل بصدده: “أليس من دواعي الأسف أن يعرف الغربيون فضل ابن خلدون قبل أن يعرفه الشرقيون؟ إن الذي يؤسف له حقا أن يقوم بعض الشرقيين (يقصد طه حسين) يحطّون من قدر ابن خلدون بعد أن جهد الغربيون كل الجهد في نشر فضائله.. إن طه حسين متردّد بين المفهوم وغير المفهوم والمتحول والثابت الممكن وغير الممكن، لم نره في كتاب إلا داعية للتشكك، ولا في مقالة إلا آخذًا بالظن. لم يُثبت في حياته شيئًا، بل كان ينفي ما يُثبت بنفسه”!.

 

ولكن لعل كتاب الدكتور طه حسين “في الشعر الجاهلي” الذي صدر سنة 1926 لقي أعنف الردود من شريحة واسعة من المثقفين المصريين وغير المصريين نظراً لاصطدامه بما يمكن تسميته “بالنظام العام الثقافي والاجتماعي”.

 

أثار الكتاب ضجة كبرى وصودر بعد أن قُدّم مؤلفه إلى النيابة العامة. ثم أعاد المؤلف طبع كتابه سنة 1927 بعد أن حذف منه فصلاً وأضاف فصلاً تحت عنوان “في الأدب الجاهلي”.

 

وقد قدّم نفر من الأدباء المصريين هم محمد أحمد الغمراوي وأحمد العوامري ومحمد عبد المطلب تقريراً عن هذا الكتاب ورد فيه:

 

“في الكتاب شيء كثير يناقض الدين الإسلامي ويمسّه مسًا مختلف الدرجات في أصوله وفروعه:

 

أولاً أضاع على المسلمين الوحدة القومية والعاطفة الدينية وكل ما يتصل بهما.

 

ثانيًا: أضاع عليهم الإيمان بتواتر القرآن وقراءاته وأنها وحي من الله (باب اللهجات).

 

ثالثاً: أضاع عليهم كرامة السلف من أئمة الدين واللغة وعرفان فضلهم.

 

(باب السياسة والدين)

 

رابعاً: أضاع عليهم الثقة بسيرة النبي في كل ما كُتب فيها.

 

خامساً: أضاع عليهم الاعتقاد بصدق القرآن وتنزيهه وبراءته مما رماه به المستشرقون.

 

سادساً: أضاع عليهم ما وجب من حرمة الصحابة والتابعين.

 

سابعاً: أضاع عليهم الأدب العام مع الله ورسله وكرام خلقه.

 

ومن الذين ردّوا على كتاب “في الأدب الجاهلي” ونقضوه عبد المتعال الصعيدي.

 

أخذ طه هذه الآراء من كتاب “ذيل مقالة في الإسلام” لهاشم العربي، وهو من عمل المبشّرين الطاعنين في كتاب الله. ولكن صاحب “الذيل” كان فطناً محترساً، ولكن حاكيه (أي طه حسين) كان قليل الفطنة فاصطدم بالنقض الآتي: إن التوراة قد انتشرت في البلاد قبل نزوح اليهود إلى يثرب وما حولها في جزيرة العرب، وكان فيها ذكر إبراهيم وإسماعيل، فلم يكن ذلك من صنع اليهود الذين كانوا بين ظهراني العرب حيلة منهم للتقرّب إليهم. ولو كان يهود يثرب هم الذين اخترعوها حيلًا، فما هو السرّ إن كان ذُكر إبراهيم وإسماعيل في جميع نسخ التوراة ؟.

 

لقد سرق الدكتور بحثه من كتاب سخيف، ولم يفهمه على وجهه، ونقله من كتاب أحد المبشّرين على أنه ابتكار من ابتكاراته، ورأي من آرائه الجديدة، وهو الذي أقام الدنيا وأقعدها على الشيخ علاّم سلامة إذ نقل عن “لسان العرب” ما نقل ولم ينسبه إلى صاحبه. فلماذا استحلّ هذه السرقة القبطية وهو العالم الذي لا يبارى؟.

 

وناقش محمد طاهر نور طه حسين أيضاً معتبراً أن الخطأ بدأ بافتراضٍ تخيّله طه ثم انتهى بأن رتب عليه قواعد كأنها حقائق ثابتة، كما فعل في أمر الاختلافات بين لغة محمد ولغة عدنان، وفي مسألة إبراهيم وإسماعيل وهجرتهما إلى مكة وبناء الكعبة.

 

إن طه حسين يرى أن ظهور الإسلام قد اقتضى أن يثبت الصلة بين ديانة اليهود والنصارى، وأن يثبت القرابة المادية الحقيقية بين العرب واليهود اللازمة لإثبات الصلة بين الإسلام واليهودية، فاستغلّها لهذا الغرض، فهل له أن يبيّن السبب في عدم اهتمامه أيضاً بمثل هذه الحيلة لتوثيق الصلة بين الإسلام وبين النصرانية؟ إن الأستاذ ليعجز حقاً عن تقديم هذا البيان، وكل ما استند إليه من الأدلة هو:

 

– فليس يبعد أن يكون..

 

– فما الذي يمنع..

 

– ونحن نعتقد..

 

– وإذن فنستطيع أن نقول..

 

ويضيف محمد طاهر نور: “سئل طه حسين عن أصل هذه المسألة (أي تلفيق القصة) وهل هي من استنتاجه أو نقلها؟ فأجاب: هذا فرض فرضته أنا دون أن أطّلع عليه في كتاب آخر. وقد أُخبرت بعد أن ظهر الكتاب أن شيئاً من مثل هذا الغرض يوجد في كتب المبشرين، وهو المبشر الذي تستّر تحت اسم “هاشم العربي”. وكان هاشم العربي في عبارته أظرف من مؤلف كتاب “في الشعر الجاهلي” لأنه لم يتعرّض للشك في وجود إبراهيم وإسماعيل بالذات، وإنما اكتفى بأن أنكر أن إسماعيل أبو العرب. وقال: “إن حقيقة الأمر في قصة إسماعيل أنها دسيسة لفقها قدماء اليهود للعرب تزلفاً لهم”!.

 

وممن ردّوا على طه حسين أيضاً الدكتور عبد الحميد سعيد فقال: إن ما يدل على سوء نية طه حسين أنه اختار لقلمه أخبث مناحي الحياة مع التهكم والتعريض بأقدس ما يقدّسه الناس. فهو يذكر المجون والفجور ويروّج لهما بإخلاص وعزيمة. وقد نشأ الرجل في الجامعة الأزهرية واشتهر بين رفاقه بتلك النزعة اللادينية والآراء الشاذة، واعترضته في حياته أمور غَرست في نفسه عاطفة الحقد والحنق على الأزهر ثم على الإسلام من أجل الأزهر، فشبّ عدوًا للدين وتعاليمه، يشوّه كل ما هو منسوب إليه. ومن يتتبع حياته العلمية يجد أنه يذهب في كل مسألة تتعلق بالإسلام مذهب أعداء الدين وخصومه الألداء”.

 

وآثار كتاب الأب لويس شيخو “شعراء للنصرانية في الجاهلية” حفيظة أب آخر هو أنستاس ماري الكرملي. ذلك أن شيخو تعسّف في تناوله بعض شعراء الجاهلية فعمد إلى تنصيرهم في حين أنهم كانوا يهوداً أو غير نصارى على الإطلاق: “عُني الأب شيخو اليسوعي منذ برهة بإظهار فضل شعراء النصرانية في عهد الجاهلية. وهو نعم العمل لو توخّى في ذلك صراط الحق واتبع سنن التاريخ المسنون نقلا ورواية، إلا أنه – حفظه الله- قد أخذ على نفسه أمراً هو في غاية الصعوبة والعنف، ألا وهو تنصير بعض شعراء الجاهلية مما لم يكن لهم في النصرانية حظ.. فلا ريب أنه يعّد هذا العمل من قبيل تنصير من كان على الضلال مبتغياً بذلك القربى والزلفى من رب العباد واكتساب الأجر والثواب في الدنيا والمآب. ويا ليته وقف عند هذا الحد وكأنه لم يجتزئ بذلك، فإذا به الآن يحلّ قيد من تقيّد بدين وإجباره على النصرانية قَبِل أم أبى، كما فعل بالسموأل إذ أجبره وهو بين الأموات على إنكار دينه وانتحال النصرانية ديناً له.

 

فلا جرم لو أمكن للموتى أن ينطقوا، لكان أول نطق السموأل إنكار هذه الفعلة الشنعاء وهذا القهر المنكر.. وإذا سألتني متى فعل حضرة الأب هذا الفعل، قلنا: فعل ذلك عند عثوره على قصيدة تُنسب إلى صاحب الأبلق الأغرّ، وقد زاد عليها بعض النصارى بيتاً أو بعض أبيات لإيهام القارئ أنه كان على النصرانية وهذا ما حدا الأب إلى أن يقول: “نشكر حضرة مراسلنا الذي أطلعنا على روايات هذه القصيدة، وكنا وددنا لو زادنا علمًا عن النسخة التي أخذ عنها لتعريف قِدمها وخواصّها، وإن كان البيت الأخير صحيحاً، صدق ظننا السابق بأن السموأل نصراني لا يهودي، لا سيما أن أصله من بني غسّان، وبنو غسّان نصارى!.

 

ويضيف الكرملي: “نقلنا كلام الأب برمته ليطلع عليه القارئ الحكم العدل ويعرف قوة براهينه وحججه.. أما قوله: “إن كان البيت الأخير صحيحاً”.. قلنا: ونحن نقول مثله، غير أن سوء الحظ خطته يد أثيمة فحطّته هذا المحطّ”.

 

ومن هنا يظهر أن الناظم النصراني الكاذب لم يرُاعِ انتقال شيء بعد شيء، لتنتهي إلى المسيح، بل هجم على الموضوع دفعة هجوم الذئب الجائع فوقع على فريسته وفراها بأنيابه، إلا أن الغير وقعوا عليها أيضاً فأظهروا خيانته.

 

أما قول الأب: “لا سيما وأن أصله من بني غسان”.. فهو قول لا يسلّم به المطلعون على أخبار العرب منذ الجاهلية لأن من غسان من كان على الوثنية، ومنهم من دان باليهودية، وطائفة كانت على النصرانية. فكيف يقول بعد ذلك، إن غسان كانت نصارى؟.

 

أما أن اليهودية كانت في غسان فهذا بيّن من دين السموأل، فإنه ليس من كاتب أو أديب أو مؤرخ أو لغوي ذكر السموأل إلا وقال عنه إنه يهودي المذهب. بل إن حضرة الأب نفسه يقول ذلك في كتاب “مجاني الأدب” في الحاشية، فكيف انثنى اليوم عن رأيه”؟.

 

ومن المعارك الأدبية اللافتة في كتاب أنور الجندي معركة حول “الأدب المهموس” الذي طلع به الناقد الدكتور محمد مندور في كتابه “في الميزان الجديد” وفيه يثني على نزعة ما يسمّيه بالهمس في الشعر المهجري.. يبدو أن هذا الثناء، ومعه شعر الهمس نفسه، أثار حنق بعض الباحثين المصريين. وباسم هؤلاء كتب محرر أدبي في مجلة “الرسالة” عُرف باشتغاله بالنقد الأدبي (هكذا ورد في الكتاب) حول نزعة الهمس هذه:

 

“أثبت الدكتور مندور أن أدباء المهاجر هم شعراء العربية، وأن بين شعرهم وشعر الكثير من شعراء مصر قروناً.. والواقع أن النماذج التي جاء بها والدعوة التي يدعو بها إلى هذه النماذج توجيه مؤذٍ في فهم الأدب وفهم الحياة!.

 

وأنا أفهم أن يحب مندور أو سواه لونًا من ألوان الأدب، فتلك مسألة مزاج. ولكن أن يصبح هذا اللون الواحد دون سواه هو الأدب الصحيح، وما عداه سخيفاً، فذلك ضيق في الإحساس يجوز أن يقنع به قارئ يتزوق ويلذّ له لون واحد من الغذاء الروحي، ولكنه لا يصلح لمن يتصدى للنقد والتوجيه.

 

وإذا نحن جعلنا همّنا أن نهمس فقط، وأن نكون وديعين أليفين، وأن تكون الحنّية هي طابعنا فقط، فأين نذهب بالأنماط التي لا تُعدّ من حالات الشعور وحالات النفوس وحالات الأمزجة؟. مندور يسمّي شعر المتنبي شعراً خطابياً، ويعني أن المتنبي لا يهمس. فإذا قال ميخائيل نعيمة من الشعر المهموس:

 

أخي إن عاد بعد الحرب جندي لأوطانه

 

وألقى جسمه المنهوك في أحضان خلاّنه..

 

فإن مندور يقف معجبًا أمام صورة هذا الجندي المنهوك الذي يلقي بجسمه في أحضان خلاّنه. أي خطأ ينتظرنا حين نطالب المتنبي العارم الطبع الصائل الرجولة بأن يحدّثنا في وداعة كوداعة ميخائيل نعيمة؟ الصدق هو الذي ينبغي أن ننظر إليه، والمتنبي صادق أجمل الصدق وهو يجلجل ويصلصل في شعوره وفي أدائه، لأنه هو هكذا من الداخل. وجميع النماذج التي استعرضها مندور هي من اللون الذي يشع فيه الأسى المتهالك المنهوك وذلك توجيه مؤذ يكاد الدافع إليه أن يكون دافعاً مرضياً، وهو ما يدعو للحذر الشديد.

 

ويرد محمد مندور على هذا الناقد الذي لا يذكر الجندي اسمه فيقول: “يرى الكاتب أن نوع الإحساس الذي أوثره في زعمه خاص بالنساء وبذوي الأمزجة الخاصة. وأنا لا يرهبني أن يكون إحساسي على هذا النحو، ويعصمني من تلك الرهبة جهل نفضته من نفسي، وبربرية لا يزال يسدر فيها الفطريون من الناس. لقد سمع أستاذه (يقصد العقاد) يكتب مقالات يثبت فيها أن المرأة غير الرجل، وأن بينهما اختلافًا سحيقًا في الطبيعة.

 

وسمع الغُفل من الرجال يزدرون المرأة ويعتبرونها مسبّة أن يشبه الرجل بالمرأة في شيء، فلم ير سبيلاً للمهاترة خيراً من أن يردّ إحساسي إلى المرأة وإلى ذوي الأمزجة الخاصة.

 

ليس صحيحاً أن بين المرأة والرجل اختلافاً في الطبيعة، وليس هناك امرأة كاملة الأنوثة، وليس هناك رجل كامل الرجولة، ومن يدّعي غير ذلك يصدر عن عقل باطن أمرضته سخافات العقلية الاجتماعية التي نحيا بها. إنه من الحمق أن نحاول تنقيص الرجل بردّ أحد أحاسيسه إلى المرأة، والشعوب المتحضرة ترى على العكس من ذلك أن إحساس الرجل كالمرأة موضع فخار، و”رينان” وصف نفسه بأنه كان يفكر كرجل ويحسّ كامرأة ويتصرف كطفل.

 

تلك صورة عن بعض معارك الأقلام التي وقعت في القرن الماضي بين نخبة من المفكرين والباحثين والأدباء. وهي معارك قديمة وحديثة معًا، بعضها لا يزال مفيدًا وممتعًا إلى اليوم. ولعل الصراع الأدبي والفكري الذي شهده القرن العشرون عندنا مبعثه، في الأعم الأغلب، اختلاف الرؤى بين المحافظين الذين تربوا على الثقافة التقليدية، والمحدثين المنفتحين على ثقافة الغرب الذين نهلوا من هذه الثقافة ما اصطدم بالثقافة التقليدية التي أشرنا إليها.

 

ولكن الصراع وإن كان حادّاً أحياناً، ظل صراعا أدبياً وفكرياً محضاً. وهو في ذلك يختلف عن الصراع الذي شهدته السنوات الأخيرة في عالمنا العربي، والذي كثيراً ما عوقب صاحب الفكر على فكره، من نوع ما حصل في مصر لنجيب محفوظ وفرج فودة، كان الصراع أدبياً وفكرياً محضاً، وتشكل وجهات نظر كثيرة واردة في معارك ذلك الزمن، وثائق ثقافية ذات شأن تصلح لأن تُدرّس في مدارسنا اليوم. وقد أحسن أنور الجندي عندما وثّق عدداً من هذه المعارك، فلولاه ربما لم نطلع على هذه الصفحة الباهرة في نشاط العقل العربي المعاصر.

 

ــــــــــــــــــــــــــــــ

الراية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى