عمّان مدينة اللجوء الموقت للمثقفين العراقيين

الجسرة الثقافية الالكترونية

*عمر شبانة

المصدر: الحياة

 

هل البيئة الثقافية الأردنية حاضنة لـ «الغريب»، وأعني العربي اللاجئ إليها من هذا البلد أو ذاك، أم هي بيئة طاردة له، رافضة لوجوده واندماجه فيها؟

من بين عشرات، بل مئات المثقّفين العراقيّين الذين لجأوا إلى الأردن، ولأسباب متعددة ومختلفة، في فترات ومراحل متفاوتة، بدءاً من سبعينات القرن العشرين حتى اليوم، مروراً بمرحلة الحرب العراقية – الإيرانية، لم يبق من هؤلاء في العاصمة الأردنية عمّان، سوى قلة قليلة، ممن فضّلوا، البقاء في هذا البلد، قريباً من «عراقهم»، لأسباب مختلفة أيضاً، منها ارتباط بعضهم بعمل ما.

أما الغالبية فقد اختارت أن ترحل إلى المنافي البعيدة، بعيداً عن العراق الجريح والمدمّى، بأيدي القيادة العراقية (الصدّامية) أولاً، ثم بمخالب الغزو الأميركي أخيراً، حتى باتت بلاد ما بين النهرين تدعى «بلاد ما بين القَهرين» وفق وصف القاص والكاتب علي السّوداني لها.

حالة «اللجوء» الموقت للمثقفين والمبدعين العراقيّين هذه، وما تلاها من «هجرة» نحو ملاجئ في بلدان أخرى، تساهمان في تكريس صورة الأردن بوصفه «ممرّاً» للّاجئين والمهاجرين، وليس «مستقَرّاً» دائماً لهم. ما يثير السؤال مجدّداً حول أسباب هذه الظاهرة التي تكرّرت مع لاجئين من بلدان عربية أخرى، آخرها الحالة السوريّة. لماذا لا يستقرّ هؤلاء، وإذا ما استقرّ بعضهم فهو لا يندمج في الحياة الثقافية كما كان يستقرّ ويندمج المثقفون والمبدعون العرب في ساحات ثقافية مثل بيروت ودمشق، مثلاً؟

قد لا يحتاج هذا الحديث إلى مناسبة، لكنني هنا أتخذ مناسبة من صدور كتاب للكاتب العراقي هادي الحسيني بعنوان «الحياة في الحامية الرومانية: عن المثقّفين العراقيّين في عمّان»، يعرض فيه تجربته وتجارب عدد كبير من المثقفين والمبدعين العراقيين الذين عاشوا في الأردن فترات متفاوتة من حيث الأسباب التي دفعتهم إلى اللجوء، طول الإقامة، ومن حيث صور وأشكال المعاناة التي تعرضوا لها، ثم الأسباب التي دفعت بهم إلى دول اللجوء الأوروبية وغيرها.

كتاب الحسيني يعرض تجارب لأبرز المبدعين العراقيين في الأردن، بدءاً من تجربته هو وأبناء جيله، جيل الثمانينات والتسعينات، متوقّفاً عن تجارب شعراء مثل عبدالوهاب البياتي وسعدي يوسف وحسب الشيخ جعفر وجان دمّو، وعدد من الفنانين والمبدعين في مجالات مختلفة. لكن غالبية الاهتمام في كتاب الحسيني تتركز على البياتي ومجموعة من الأدباء المحسوبين على جيل الشباب في النصف الثاني من تسعينات القرن المنصرم، وربما كان أبرزهم القاصّ علي السوداني، والشعراء نصيف الناصري وعبود الجابري والناقد عواد علي، وغيرهم.

يتناول الكتاب محاور عدة من تجارب المثقفين العراقيين، ثقافية ومعيشية، فيتوقف مطوّلاً أمام معاناتهم في العراق، في ظل نظام البعث وصدام حسين وحروبه، وكيفية تأمين هروبهم إلى الأردن، ثم كيفية التعايش مع المجتمع الأردني، والبحث عن فرص تأمين لجوء إلى الدول التي تمنح هذه الفرصة، عن طريق الأمم المتحدة ومنظماتها الدولية، وبالتالي فإن معظمهم كانت إقامتهم في الأردن قصيرة، حتى البياتي الذي كان له وضع متميز لجأ إلى دمشق في السنوات الأخيرة من حياته، وتوفّي هناك.

المحطة الأردنية في اللجوء محتشدة بالتفاصيل، خصوصاً في ما يتعلق بالحياة اليومية، ومحاولات الاندماج والتأقلم مع المحيط، وهو محيط محافظ يصعب الاندماج فيه. وربما كان أكثر ما يلفت انتباه في هذه التجربة، هو أحاديث الحسيني عن مشكلات السكن والعمل، والأماكن التي يتردد عليها هؤلاء المثقفون، كالمقاهي والمطاعم والحـانات والمراكز الثقافية.

هذه التجربة في اللجوء يلخصها المؤلف في سطرين «وقد رافق هذه السنوات والشهور والأيام الكثير من المفارقات المؤلمة والمضحكة، فمنهم من لم يحتمل الوضع والحياة الصعبة داخل العاصمة عمّان ليعود إلى بغداد، أما الغالبية العظمى فغادرت إلى المنافي الواحد بعد الآخر».

ثم يعود ليوضح أكثر «وقد كان لتواجد بعض الرموز الثقافية والفنية في عمّان ذلك الوقت مـــثل عبدالوهاب البياتي وسعدي يوسف وحسب الشيخ جعفر وحسين البصري وأنوار عبدالوهاب وحمودي الحارثي وشخصيات أخرى أثر كبير في تحملنا المتاعب التي لحقت بنا في تلك الفترة التي كانت فترة صعبة ومتعبة فـــي بداياتها القاسية، إلا أنها سرعان ما أضاءت العاصمة عمّان بالأماسي الشعرية والقصصية والفنية الكثيرة ليشع إبداع المثقف العراقي الذي استطاع أن يعبّر عما يجــول في داخله بحرية، بعد أن كـــان داخل وطــنه العراق عرضة للاضطهاد والتنكيل والقمع المستمر»!

في الواقع، هذا التوصيف لوقائع حياة المثقفين العراقيين في الأردن، تنقصه الدقّة، رغم الصدقية الكبيرة التي ترافق غالبية التفاصيل التي يوردها الحسيني في مجمل الكتاب، وذلك لجهة حجم المشاركة التي يقدمها العراقيون في الحياة الثقافية الأردنية، فمن يعرف الساحة الثقافية في الأردن، عن قرب، يدرك حجم انغلاقها على ذاتها، واكتفائها بنفسها، رغم كل ما هنالك من أنشطة ذات طابع عربي، ولذلك فإن الحضور الثقافي العراقي، والعربي عموماً، في الأردن ظلّ محدوداً جداً، وظل مطبوعاً بالمناسباتية.

عمّن تبقى في الأردن، وعمّان خصوصاً، يقول الشاعر عبّود الجابري، وهو متزوج من أردنية ويعمل في أحد مستشفيات عمّان: فعلاً لم يبق من المثقفين والمبدعين العراقيين في الأردن سوى عواد علي بجنسيته الكندية، وعلي السوداني الذي تم توطينه في اميركا قبل عدة سنوات لكنه رفض لأسباب تتعلق بخوفه من المجهول هناك ومجموعة من الأكاديميين الذين يعملون في الجامعات والمعاهد الأردنية وبعض الفنانين التشكيليين الذين يعتاشون على أعمالهم الفنية وهم مسترخون مادياً في شكل أو في آخر.

وعن حجم النشاط الثقافي للعراقيين في الأردن يقول «في مطلع التسعينات، وعند الفورة العارمة لوفود العراقيين إلى الأردن، شكّل العراقيون حراكاً ثقافياً وفنياً شديداً، هذا الحراك لم تعتد عليه الصالات الثقافية هنا، لذا قوبل بالاحتفاء، لكنه بدأ بالخفوت بعد أن أخذ العراقيون بتأسيس أماكن خاصة بهم، لاسيما وأن الطبائع غيّرت أو قللت من الاحتفاء بهم بتـــأثيرات غرائزية لها علاقة بغيرة المـــثقف، إضافة إلى أدلجة الأماكن التي قادت بعض المبدعين إلى الإعراض عن المشاركات.

ويختم الجابري عن العلاقة مع المؤسسات الثقافية: المؤسسات التي ترعى الثقافة هنا قليلة، ويقودها جمع له توجهات سياسية تخالف التوجه الإنساني للمبدعين العرب الذين يفدون إلى الأردن، فهم إما بعثيون عراقيون أو بعثيون سوريون، وأنت تعلم كم ضاق العراقيّ بطغيان الحزب الواحد، يبقى هناك ثلة من البعثيين العراقيين الذين وصلوا عمان بعد سقوط النظام، وهؤلاء لم يكونوا يشكلون ثقلاً إبداعياً في العراق أصلاً، إلا أن احتضان المؤسسات الثقافية لهم، لأسباب لها علاقة بالتوجه السياسي، منحهم صوتاً كما حدث في البيت الثقافي العراقي الذي أسسته رابطة الكتّاب الأردنيين.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى