عندما تكون الصورة في أجمل تجلّياتها الممكنة

الجسرة الثقافية الالكترونية
*نديم جرجورة
المصدر: السفير
هشام لعسري في بيروت. المخرج المغربي في ضيافة «أيام بيروت السينمائية»، في دورتها الـ8 (12 ـ 21 آذار 2015)، حاملاً معه أفلامه الروائية الطويلة الثلاثة: «النهاية» (2011)، و»هُمُ الكلاب» (2013)، و «البحر من ورائكم» (2014). يلتقي طلاباً ومهتمّين. يروي لهم شيئاً من عالمه السينمائي. يحاورهم. يستمع إليهم. لعلّه سيسألهم عمّا يرغبون في صنعه. يُقدّم أفلامه الثلاثة التي تُعتبر تفعيلاً للاختلاف الجذري، صورةً ومعالجة واشتغالات، عن مألوف العمل السينمائي. لديه قدرة على إثارة سجال، بعد إثارته صدمة المُشاهدة. لديه قوة الابتكار في رسم شخصية، وفي تصوير حالة، وفي سرد حكاية. الهامش لديه أهمّ من المتن. أو بالأحرى منبعٌ له. يقول عبر الصورة السينمائية ما يجول في خاطره ويشعر به. ينظر بعينيه إلى مدينة وأناس وواقع وتحوّلات، فيلجأ إلى الكاميرا كي يلتقط ما هو مخبّأ في المنظور إليه. يُفكّك سينمائياً ما هو مبطّن، ويدفع الواضح إلى تخوم عميقة تمزج غموض اللحظة البصرية بالتباس ارتباطها الفجّ بالواقع والتاريخ والذات. الفجاجة هنا صنوّ جمال صادم. والصدمة متأتية من تركيب سينمائي متماسك في صنعته، إذ يُمكن الذهاب إلى شيء من التطرّف البديع في القول إن أفلام هشام لعسري عصية على الخطأ البصري أو الدرامي، لشدّة ما فيها من تماسك يفي مقوّمات الصناعة السينمائية السوية حقوقها الفنية والتقنية والجمالية والدرامية والإنسانية.
نظرة إلى الأعماق
استضافة «أيام بيروت السينمائية» مخرجاً عربياً كهشام لعسري (مواليد الدار البيضاء، 13 نيسان 1977) دعوة إلى اكتشاف بهاء الصورة في غوصها عميقاً داخل التفاصيل والروح والانقلابات المدوّية التي يصطدم المرء بها. دعوة إلى «فُرجة» سينمائية جميلة ومُتعِبة، لأن أفلامه الثلاثة تأخذ مشاهديها في رحلات داخل أنفاق ومتاهات والتباسات وغموض، كي تضعه أمام نفسه من دون مرآة، دافعة إياه إلى تحليل ذاته عبر صنيعه السينمائي الجميل. يقول لعسري: «يعنيني من يبحث عن الفهم الصعب الذي يحتاج إلى الاستعداد الفكري». بالنسبة إليه، «كلّما كانت القصّة صعبة، بالنسبة إلى هذا الجمهور، زاد رضاه عن نفسه أكثر عند فهمه لها. هذا يُخالف الاتجاه السائد الآن تجاه السطحية والاستسهال». يقول: «أنا كمتفرّج أو كمخرج أفضّل دائماً الأفلام التي تعيش بشكل أفقي، وليس الأفلام التي تثير الضجّة والنجاح، ولكن تموت بسرعة» (سليمان الحقيوي، «العربي الجديد»، 8 شباط 2015). يُضيف، في حوار آخر، أن «الخيال والهرج» بالنسبة إليه «مهمّان جداً». يقول إن السينما «أداة تفكير، لكنها وسيلة عرض أيضاً. أحبّ كثيراً أن يضحك المُشاهدون أمام بعض اللقطات. حتى أن هناك أناساً يستنكرون أن يضحك آخرون أمام مشاهد معينة». لا ينسى أن «الفيلم هو، قبل كل شيء، عرض وليس بالضرورة أطروحة ثقيلة ومملة. قد يكون الفيلم أطروحة حين تتحقّق الكثافة السردية والنظرية. لكن، يمكن أن يكون الفيلم أيضاً عرضاً كامل الأوصاف، يحمل الناس معه، أو بالأحرى من يقدرون على الصعود، لأن الأفلام دائماً دعوة إلى الصعود، وفي بعض الأحيان، هناك من لا يلبّي الدعوة». (سعيد المزواري، «النهار»، 17 نيسان 2014).
3 أفلام تُطلق عروضها في 3 أعوام. «النهاية» أوّلها. لإنجازه، تطلّب عملاً دؤوباً وميدانياً لـ4 أعوام. بالأسود والأبيض. فيلمٌ صادم وقاس. شخصيات متوترة ومرتبكة. الشارع سيّد اللعبة. الأيام القليلة السابقة على رحيل الملك المغربي الحسن الثاني (23 تموز 1999) زمن السياق العام لأحداث وحالات. شخصيات تتصادم وتتجَاور. تبحث في أسفل المجتمع عن أبشع المخبّأ. عالم سفليّ؟ ربما. لكنه بالتأكيد عالمٌ مشحونٌ بكَمّ هائل من الغضب والعنف والقسوة. شخصيات غير متصالحة مع ذواتها، تريد خلاصاً غير موجود، وتبحث عن أفق ينغلق عليها. قوّة البطش في آلية التصوير تُحتَمل، إن تمكّن المُشاهد من استيعاب الفضاء المكتنز بضباب والتباس وهذيان وخراب.
مُتعة
بعض هذه المعالم حاضرٌ في «هُمُ الكلاب». العودة إلى أحداث ما يُعرف بـ «ثورة الخبز» في الدار البيضاء (20 حزيران 1981) حافزٌ لاستكشاف واقع الحال في المدينة نفسها، في زمن «الثورات العربية». مجهول (أداء رائع ومؤثّر للممثل المغربي حسن بديدا) يجد نفسه فجأة في مدينة لا يعرفها. 30 عاماً في السجن، وها هو الآن يبحث عن عائلته التي يظنّ أفرادها أنه هو من يريد الاختفاء، في حين أن حقيقة الأمر متمثّلةٌ بأن الشرطة تُلقي القبض عليه في تلك اللحظة أثناء ممارسته رياضة الهرولة. الصدفة تجمعه بفريق عمل تلفزيوني. المصوّر والإعلامي يرافقانه في رحلة الخراب الجديد هذه. كاميرا محمولة، وصُوَر مرتبكة، ولقطات تخطف الأنفاس: «منذ البداية، يجب التلاعب قليلاً بـ «كودات» السينما. يجب الاعتداء. لدينا ميل دائماً لإنجاز أفلام «رائعة» ولطيفة. لكن، هذه المرّة، الموضوع لا يحثّ على اللُطف. لرواية غضب شعب وأمم، يجب أن يكون سارد الراوية أكثر عدائيةً وانتهاكاً للمألوف والعادي من الموضوع نفسه» (سيغفريد فروستر، «Rfi ـ أصوات العالم»، 5 شباط 2014).
«البحر من ورائكم» يغوص، هو أيضاً، في عوالم هامشية. التنقيب في الهامشيّ أو المهمّش جزءٌ من لعبة السينما في اختراق المحجوب. يُسلّط ضوءاً على تعقيدات شخصياته عبر إيقاع تقليد موسيقي غنائي مغربي (H’dya)، القريب من فضاءات «العيد السوقيّ». يبحث في مِحَن طارق (الممثل المغربي الجميل في دوره هذا مالك أخميس)، «الذي يعكس الحدّ الفاصل بين الفحولة والمثليّة الجنسية، وبين الفحولة والخنوثة». يُضيف لعسري: «إنها مأساة رجل لم يكن يوماً كما يُفكّر به الآخرون. ليس لأنه يرتدي زيّاً نسائياً يُصبح مثليّ الجنس. هذه مهنته. لكن، من أجل هذا، يتألّم بسبب الفصل العنيف الذي يصنعه الآخرون عليه، خصوصاً من قِبَل إحدى الشخصيات التي تعتدي على امرأته وأولاده وبيته» (أناييس لوفِبور، «آل هافينغتون بوست» المغربية، 28 كانون الثاني 2015). يعمل طارق ضمن فرقة «سيرك» متجوّل. يرقص من أجل المال في أعياد وحفلات زواج، لكنه يبحث عن أجوبة تبدو معلّقة في المجهول. الفرقة نفسها مؤلّفة من هامشيين، كأنهم مثله يبحثون عن مغزى أو تفسير أو جواب.
هذا اختصار تفاصيل عديدة يُتقن هشام لعســــري التقاطها وبثّها في أفلام مثيرة لمتعة المُشاهدة وجمالية النـــــقاش. حكايات مستلّة من وقائع العيش على الحوافي الخطــــرة للخراب والموت والتمزّق، أو في داخلها. سرد سينمائي يضع الصورة في أجمل تجليّاتها الممكنة، ويُقدّم الحبكة في أبهى لقطاتها السينمائية.
برنامج العروض
ـ «النهاية» (105 د.): يُعرض 9،30 صباح اليوم الاثنين 16/ 3، في «الأكاديمية اللبنانية للفنون الجميلة» (سن الفيل)، يلي العرض ندوة مع المخرج بإدارة أنطوان خليفة.
ـ «البحر من ورائكم» (88 د.): 9،30 مساء اليوم الاثنين 16/ 3، في «متروبوليس» (مركز صوفيل، الأشرفية).
ـ «هُمُ الكلاب» (85 د.): 4 بعد ظهر السبت 21/ 3، في «متروبوليس» (مركز صوفيل، الأشرفية).