عنصر مهم في هندسة الفضاء المسرحي

الجسرة الثقافية الالكترونية-اتلخليج-

لا يمكن القبول بعد الآن باختزال مصطلح السينوغرافيا بأنها لفظة تجميعية لمفردات المنظر المسرحي، بهذه الكلمات النافية نضع خطواتنا الأولى أمام تعاملنا مع السينوغرافيا، فلقد أثبتت السينوغرافيا عظيم ارتباطها بالعرض المسرحي، فالنظرة الجمالية لأي عرض ترتبط بالجسر الممتد بين المكون الإخراجي من جهة والمكون السينوغرافي من جهة أخرى، وهما عنصران رئيسيان في هندسة الفضاء المسرحي .

فلقد تطورت مكونات الاشتغال بالفضاء بتطور إمكانات القراء للعرض، وفي أحيان كثيرة تكون المخيلة مغذياً قوياً لابتكار عناصر قرائية أخرى مستعينة بالحس الثقافي والحضاري لهندسة أي فضاء كان .

علينا أن ندرك مسألة مهمة بهذا الخصوص وهي علاقة المخرج بالسينوغراف . . لأن مثل هذا السؤال سيفتح لنا معرفة واقع السينوغرافيا في البحرين تحديداً وربما هو الحال نفسه في دول العالم . . وعلينا أيضاً أن نعي البعد الثقافي لكليهما إذ إن العلاقة بينهما ليست علاقة فوقية، ولم يعد بالإمكان أن يملي المخرج على السينوغراف ما وجده في النص أو العملية المسرحية . لقد باتت العلاقة الآن علاقة مغذية لقراءة النص المسرحي وفهم أبعاده . . إنه حوار ذو بعد ثقافي واجتماعي وفلسفي يقوم عليه تأسيس العرض المسرحي وابتكار قراءته الجديدة .

في تاريخ المسرح وتعريف كل المدارس لمصطلح السينوغرافيا مرت حركة السينوغرافيا في العالم بمنعطفين مهمين حول مرجعية السينوغرافيين وهوياتهم الثقافية:

الأول: السينوغراف فنان تشكيلي بالدرجة الأولى .

الثاني: السينوغراف معماري أو مصمم “مالتي ميديا” .

ومر هذان المنعطفان بالكثير من الجدل، فنتج عنهما بروز المخرجين السينوغرافيين أيضاً ونتج عنهما أيضاً تطور مفردات الحوار بين المخرج والسينوغراف، لكن علينا ألا ننسى هنا جهود المنظرين والمصلحين المسرحيين في الدفع باتجاه أنسنة السينوغرافيا باعتبارهما هوية للعرض المسرحي وليست مرادفاً أو ظلاً له .

بحرينياً أتى مصطلح السينوغرافيا كحالة توثيقية على يد الفنان عبدالله يوسف في مسرحية السوق عام ،1988 لكن كحالة تأسيسية لتداول وفهم المصطلح، فقد جاءت مع مسرح الصواري عام 1991 .

لكن بالعودة إلى ما قبل ذلك سنجد بأن هناك حالات استثنائية سنطلق عليها الآن مصطلح السينوغرافيا عوضاً عن تصميم الديكور أو المنظر المسرحي في تلك الفترة، وهي مرحلة الفنان يوسف قاسم 1928 – ،2004 وهو فنان تشكيلي بالدرجة الأولى برع في رسم لوحاته، لكن حسه الفني وفضوله المعرفي قاده إلى المسرح بأعماله مع الفنان صقر الرشود في الكويت، وبعض أعماله في مسرح الجزيرة البحريني، ومن ثم التحاقه بتلفزيون البحرين في قسم الديكور .

تكمن أهمية هذه المرحلة في مسألة مهمة وقد تكون المسألة أكثر ارتباطاً بمفهوم السينوغرافيا منها إلى مفهوم تصميم المنظر المسرحي أو الديكور . . وهذه المسألة هي قراءة النص، أو الحوار بين المصمم والمخرج الذي ذهب إلى هذه النوعية من القراءة . . فيوسف قاسم في مسرحية “السيد” مثلاً ذهب إلى البعد المتخيل في قراءته لنص “السيمفونية الهادئة”، وهو الاسم الأصلي لمسرحية “السيد” للمؤلف وليد فاضل، فعبر تلك المستويات في هندسة الفضاء المسرحية والتكوين البصري به يأتي يوسف قاسم ببعد تأويلي لتلك المفردات في المشهد المسرحي، وما أتى به ما هو إلا قراءة مغايرة للنص المسرحي، فهو يقسم الفضاء المسرحي إلى ثلاثة مستويات بحكم قراءته للنص، فالمستوى الأول “مستوى الخشبة” تمت هندسته بناء على الحالة الواقعية لحال الممثلين . . وهي الحالة الإنسانية والشكل الواقعي لأي مكتب أو أي بيت . أما المستوى الثاني، فهو مستوى الدواخل النفسية ورحلة العبور لشخصية العرض “جيمس واطسون” و”جوزيف”، المستوى الثالث، وهو في قمة المسرح شكل معلق لشخصية “العقل” الحاضر بصوته فقط، والذي أضاف يوسف قاسم لهذا الشكل المؤشرات الصوتية المتحركة عندما تتحدث شخصية العقل .

من شاهد العرض يدرك الجهد الفني الذي بذله قاسم في قراءته، حيث بدا شكل الفضاء في شكل مثلث ينقسم إلى ثلاثة أقسام فقمة الهرم هو العقل الذي يدير به المرء نفسه أو يدار به العالم، أما المستوى الثاني، فهو مستوى الرغبات حيث يبلغ الطموح مداه وتبلغ الشهوة مبتغاها، أما سطح الهرم فهو الشكل البشري الذي نرى به أنفسنا في حياتنا اليومية، وكأن شكل الفضاء الهندسي ما هو إلا رحلة ميكروسكوبية في دواخل الإنسان .

في تلك الفترة أيضاً ظهر اسم الفنان عبدالعزيز مندي من خلال فرقة الاتحاد الشعبي عام ،1970 فمندي باعتباره أباً شرعياً لفن الماكياج في الخليج العربي بحرفيته العالية، فهو أيضاً صمم ديكور مسرحية “الزلزال” الذي حول خشبة المسرح إلى حالة بصرية لمشهد حدوث الزلزال، فكان المسرح يهتز وجميع قطع الديكور تتساقط على الممثلين .

ووصولاً إلى عقد الثمانينات يبرز شكل جديد لمفهوم السينوغرافيا في البحرين الذي لازال غائباً كمصطلح، وهو المخرج المحرض على الشكل الجديد لتصميم الديكور، وذلك من منطلق مهم ويظهر للمرة الأولى على الساحة الخليجية وهو المسرح التجريبي، ففي منتصف الثمانينات برز على الساحة اسمان مهمان هما الفنان عبدالله السعداوي والفنان إبراهيم خلفان اللذان أسهما في تأسيس وتأصيل مفهوم التجريب في المسرح . السعداوي في ذهابه نحى بتجربته إلى محاكاة المسرح الفقير عند جروتوفسكي، أما خلفان فتمرد على مفاهيم المسرح التقليدي الذي درسه في الأكاديمية، السعداوي ذهب إلى الأماكن العارية وغير المألوفة، ذهب إلى إعادة اكتشاف المكان وتطويعه من جديد بناء على قراءته المختلفة، ففي “الرجال والبحر” عام 1986 يشغل فضاء العرض بحركة الممثل وبعض القطع كالشجرة العارية والكرسي القديم وسط الخشبة وكأنه يختزل الفضاء في جسد الممثل . أما في “الصديقان” عام 1987 فيقرأ مفردات العرض بناء على قراءته التأويلية لفضاء المكان، فالعرض يقدم في صالة عارية ويتحلق الجمهور حول الممثلين .

لكن في عام 1989 تبدأ مفردات الحوار بوضع مسار مفهوم السينوغرافيا أمام السينوغراف والمخرج في الوقت ذاته . . فعن طريق الحوار وقراءة النص وتأويله، واستناداً إلى الخلفيات الثقافية لواقع فريق عرض مسرحية “الجاثوم” يبدأ السعداوي مع فريقه وتحديداً الفنان محمد رضوان بوضع أفق مختلف لتجربته وذلك بإعادة تأهيل مكان العرض بناء على الرؤية الإخراجية .

تجربة السعداوي مع السينوغرافيا تذهب في حقيبة المخرج الذي يرى العرض ومن ثم تذهب هذه الحقيبة الملهمة إلى السينوغراف الذي يفهم حينها طبيعة القراءة الإخراجية عند السعداوي .

فالحالة التجريبية في تجربة السعداوي وشغله للأماكن العارية أو الفارغة يجعل مفهوم السينوغرافيا متوارياً خلف المكون الإخراجي، فالحالة السينوغرافية تنبعث من طبيعة المكان نفسه وشغله وإعادة تأثيثه من جديد، فتجربة اسكوريال ،1993 والكمامة ،1994 والقربان ،1996 وما لحقها من تجارب تمثل حالة مختلفة في فهم السينوغرافيا، فالسعداوي في تجربته يمثل عنصر إلهام مهماً للسينوغراف لخصوصية اشتغاله في المسرح، ففي ذهابه إلى الأماكن إنما يعيد إنتاج قراءته للمكان بوصفه حالة بصرية واختزالاً ثقافياً لقراءته للنص، ففي مسرحية “الاسكوريال” مثلاً يذهب السعداوي إلى بيت قديم يمثل حالة ثقافية بالنسبة إلى واقع البحرين وواقع قصر اسكوريال في إسبانيا الذي بناه فيليب الثاني ملك إسبايا 1556 – ،1598 فمثل هذه البيوت بالنسبة إلى الحالة البحرينية والتي يرجح أنها بنيت قبل 001 عام تقريباً، لا يمكن أن يسكنها عامة الشعب، فهي بيوت لعلية القوم وتجاره، وهو الحال نفسه بالنسبة إلى قصر الاسكوريال في إسبانيا، فهو لا يمكن أن يسكنه إلا علية القوم وملوكه .

هذه القراءة للمكان ببعدها الثقافي تنتج عنها قراءة سينوغرافية للمكان، إضافة إلى مراحل كيفية دخول الجمهور ومروه بحالات التعذيب أو المغيبين أو الأموات في ذلك البيت .

أما تجربة إبراهيم خلفان فهي حالة شبيهة بتجربة السعداوي في تعامله مع السينوغرافيا والتي تؤسسها حالة الحوار، فكلتا التجربتين تتشابهان في مسألة بناء الجسر الممتد بين السينوغراف والمخرج، والمتابع لتجربة السعداوي وخلفان سيدرك طبيعة تعاملهما مع السينوغراف، إذ إنك ستعرف حينها إلى أي مخرج تنتمي تلك التجربة بحكم تعاملهما وحوارهما مع السينوغراف .

في الضفة الأخرى يذهب الفنان عبدالله يوسف بخلفيته الثقافية مع الفن التشكيلي بإبراز شكل جديد لتصميم الديكور في حالة مسرحية “السوق” عام ،1988 وهو تعامل يقترب إلى السينوغرافيا على اعتبار وجود فرص التأويل في تصميمه لديكور المسرحية، فهو في مسرحية “السوق” لم يذهب في حواره مع المخرج بتثبيت حالة “السوق” كمكان للمشهد المسرحي، بل ذهب إلى ثقافة الحكايات التي كانت تتلى في المسرحية والحالة المعرفية لها، فثبّت في خلفية المسرحية جدارية تجريدية لهذه الحالة المعرفية من خلال الألوان والمباني والحروفيات، أما التجربة الأبرز في مسيرته فكانت مع الراحل عوني كرومي من خلال مسرحية “الخيول” التي كانت التجربة الأمثل في مد جسور الحوار بين المخرج والسينوغراف . ويمكن هنا ملاحظة بأن جميع أعمال الفنان عبدالله يوسف الإخراجية عمل بها إما كمصمم للديكور، أو سينواغرافي لها والملاحظ هنا هو حالة الوعي الحاضرة لديه، فهو يسمي الأشياء بأسمائها في كل تجربة، فهو هنا مصمم للديكور وهنا سينوغراف .

على المستوى النقدي وتناول العروض من الناحية السينوغرافية والتنظير لها فلم تجد الساحة سوى أقلام قليلة روّجت وأصّلت لمثل هذا المفهوم كالدكتور إبراهيم غلوم، ويوسف الحمدان، وعبدالله السعداوي . 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى