عن المصاهرة الظافرة بين الزمان والمكان

الجسرة الثقافية الالكترونية
*شوقي بزيع
منذ سنوات عدة وصيف لبنان يشهد تزايداً مطرداً في عدد المهرجانات والأنشطة الفنية والفولكلورية التي تكاد تغطي مساحة الجغرافيا اللبنانية بكاملها. إذ لا يكاد يمر شهر واحد دون أن تعلن جمعية أو نادٍ أو مجلس بلدي عن تصميم هذه المدينة أو البلدة أو القرية على اللحاق بركب المهرجانات المماثلة واقتطاع نصيبها من كعكة الغناء الراقص والاحتفال بالحياة. ولا يسع المرء بالطبع إلا أن يتفاءل بالظاهرة نفسها وبقدرة اللبنانيين على تجاوز حروبهم ونزاعاتهم المتجددة منذ عقود عدة، عبر اجتراح مسالك للفرح وتزجية العيش لا حدود لمفاجآتها. ربما كان واحدنا يرغب في أن تخرج هذه المهرجانات من الدائرة الرتيبة والمكررة لرقصة الدبكة والغناء الصاخب والسكتشات السطحية التي تُعد على عجل، ومع ذلك فإنه من غير الواقعي أن نرفع سقف تطلباتنا إلى حدوده القصوى وبخاصة في هذا الزمن الداعشي القاتم الذي تبدو فيه الأغنية، ولو هابطة، فعلاً مقاوماً بامتياز، ويبدو فيه الفرح عملة نادرة، والرقص على غير المجازر طقساً نادر الحدوث. وهو أمر لا ينطبق على لبنان وحده بل يتعداه إلى الأردن والعراق وسوريا والخليج ومصر وتونس وسائر بلدان المغرب العربي التي يصر بعضها على إقامة مهرجاناته الصيفية السنوية متحدياً كل الصعاب والمخاطر، فيما بعضها الآخر لا يجد مسافة ولو ضئيلة لالتقاط الأنفاس الفاصلة بين العنق والسكين.
على أنه ليس من قبيل الصدفة المجردة أن تحتفظ مهرجانات بعلبك لنفسها، ومن بين معظم المهرجانات اللبنانية والعربية المماثلة، بتلك النكهة التي ترفعها إلى الفم ثمار اللحظات الفاتنة التي تبدو لشدة محلوميتها وكأنها قادمة من أزمنة أخرى منبتّة عن هذا الزمن ومتصلة بالكيان اللبناني وهو يطل على صورته عبر مرايا متقابلة لا تنتزع من الواقع إلا القليل الذي تحتاجه، تاركة للأحلام والتهيؤات وحدها أن توصل الصورة إلى منتهاها. ليس بمحض صدفة إذاً تربع بعلبك على عرش المهرجانات التي تبعتها، ليس فقط لأنها قطفت وحدها اللحظة المبكرة لتأسيس هذا النوع من الثمل الاحتفالي بجمال العالم، بل لأنها إضافة إلى ذلك كانت وليدة المصاهرة الظافرة بين الزمان والمكان اللذين بدا كل منهما ظهيراً للآخر ومكملاً له. فعلى المستوى الأول لم يكن الرئيس الراحل كميل شمعون في إعطائه إشارة انطلاق المهرجانات ليعبر عن حماسة شخصية لاقتران اسمه بهذا الحدث الريادي فحسب، بل جاء الحدث بحد ذاته تتويجاً للحلم اللبناني بالتميز ومغامرة الدخول في الحداثة والتحول إلى حديقة خلفية لصحارى العرب التي لم تكن قد نهضت بعد من سباتها. كان ثمة بحبوحة اقتصادية غير قليلة تمخّض عنها فائض الأموال النفطية العربية وتحوّل لبنان عبر أدواره الخدماتية الناجحة إلى مرتع للحواس المكبوتة، ومصرف لرؤوس الأموال المهجرة والخائفة، وإلى فندق للملذات، ومقهى رصيف لخروج الذات من قوقعتها ولاتصالها بالآخر المختلف، أو لاستقبال المئات من المعارضين والخارجين على أنظمتهم المستبدة. لهذه الأسباب وغيرها يتعذر الفصل بين لحظة النشوء تلك واللحظات التي سبقت أو واكبت أو تلت، ومن بينها بروز الظاهرة الرحبانية ومعها صوت فيروز بوصفه التجلي الأمثل للانتشاء بفكرة الذات الجمعية عن نفسها قبيل أن تطيح هناءتها العواصف اللاحقة، إضافة بالطبع إلى ازدهار المسرح اللبناني الطليعي مع منير أبو دبس وريمون جبارة ويعقوب الشدراوي وموريس معلوف ونضال الأشقر وروجيه عساف وعشرات غيرهم، وإلى قيادة مجلة «شعر» لتحولات الحداثة الثانية، المتمثلة بقصيدة النثر بوجه خاص، والخائضة مع الحداثة الأولى التي عكستها «الآداب»، أحد أكثر السجالات فاعلية وغنى في تاريخ الشعر العربي. ولم تكن فنون النحت، عبر الأخوين بصبوص، ولا الرسم والسينما والرقص التعبيري غائبة بدورها عن مواكبة تلك الفترة الاستثنائية في تاريخ لبنان.
أما المكان بما يحمله من أبعاد ودلالات تاريخية وسينوغرافية مختلفة، فلم يقصّر هو الآخر في وسم المهرجانات بالهالة التي تستحقها وبالبعدين الطقوسي والملحمي اللذين يحيلان الحاضر إلى الماضي والماضي إلى الحاضر في اللعبة الأكثر بهاءً لتنازح الأزمنة. صحيح أن بعلبك لم تكن لحقب طويلة جزءاً من الجغرافيا السابقة للبنان الكبير، ولكن اختيارها على الأرجح قد تم لهذا السبب بالذات حيث العودة إلى فخر الدين تسهّل على المعنيين بالأمر تنسيب المكان إلى هويته الجديدة ورفده بكل ما يلزم من توابل الفولكلور وبهارات اللُّحمة الوطنية.
صحيح أن بعلبك ليست المكان التاريخي والأثري الوحيد الذي يحتضن نشاطاً كهذا، حيث علينا أن لا نغفل مهرجانات صور وجبيل وبيت الدين وعنجر وغيرها على المستوى اللبناني، وجرش وأصيلة وقرطاج والجنادرية وغيرها على المستوى العربي، ولكن ضخامة هياكلها الموزعة بين معبدي جوبيتر وباخوس، وجمالها الهندسي الذي أوصلته أعمدتها الستة المتبقية إلى ذرى تناسقه، إضافة إلى انفتاح قلعتها على رقعة واسعة من البقاع وعلى سلسلتي لبنان المتقابلتين، يوفر لكل عمل فني يقدم على مدرجاتها كل مستلزمات الانفصال عن الواقع الأرضي والانتشاء الروحي بالوجود. ولأن كل شيء هنا مرفوع إلى منتهى ضخامته، كما هو حال المعابد والأعمدة والأقواس، أو إلى منتهى اتساعه كما هو حال السهل، أو إلى منتهى ارتفاعه كما هو حال الجبال أو السماء الشاهقة والنجوم المطلة كحدقات العيون على ما يجري، فإن كل عمل فني رديء يقدم فوق المدرجات يرقى حدوثه إلى مستوى الفضيحة، وتبدو ركاكته أكبر من أن يتم التستر عليها.
آخذة هذه الحقائق بعين الاعتبار، عملت اللجنة المنظمة للمهرجانات منذ قيامها على استضافة أسماء عالمية كبيرة من وزن لويس أراغون وموريس بيجار وجان كوكتو وفرق موسيقية وأوبرالية من الطراز الرفيع، وفرق مماثلة للرقص والمسرح الغنائي. واعتلى خشبة المسرح المفتوحة على اللانهاية كل من فيروز والرحابنة ووديع الصافي وصباح ونصري شمس الدين ووردة الجزائــرية وماجدة الرومــي ومرسيل خليفة وفرقة كركلا وعبد الرحمــن الباشا ورفيق علي أحمد وعشرات غيرهم.
على أن سقف بعلبك لم يكن عالياً على الدوام، إذ تمت، في فترات ما بعد الحرب التي توقفت خلالها المهرجانات على وجه الخصوص، استضافة أسماء مختلفة لا تليق أعمالها الهابطة بسمعة المهرجان ودوره الثقافي التاريخي. وإذا كان البعض يلقي تبعة التردي على اللجان المنظمة، فإنه ليس من العدل أبداً أن لا نعطي امرأة من الطراز الماسي كمي عريضة حقها من العرفان والامتنان، وهي التي منحت حياتها بالكامل لهذا الحدث السنوي الذي اقترن اسمها به. كما أنه ليس من العدل أن نبرئ الطاقم السياسي اللبناني من شبهة المساومات والبيع والشراء والضغوط التي يمارسها بين حين وآخر لتكريس أزلامه ومبايعيه نجوماً في عالم الفن، وفي ليل المدينة الذي يعطي للسقوط طابعه المدوّي. وهذا الطاقم نفسه، مع ارتدادات الواقعين الاقتصادي والأمني السلبية على واقع الحال، هو الذي يحمل المعنيــين على نقل أنشطة المهرجان المختلفة إلى خارج فضائها الطبيعي الذي يصعب تعويضه. وهذا الطاقم نفسه هو الذي يحرم المهرجان من بيئته الحاضنة، بحيث تبدو الاحتفالات في زمن، والمدينة التي يلفها الفقر والحرمان والصمت في زمن آخر.
لعل الأمسية الخاصة التي شاءتها اللجنة المنظمة أن تكون بمثابة لفتة تكريمية للمدينة المضيفة والتي حملت اسم «إلك يا بعلبك»، هي شكل من أشكال العرفان إزاء المدينة التي ذُكرت في التوراة تحت اسم بعلبق، وسماها الرومان مدينة الشمس، ودمرها في القرن السادس زلزال ماحق وأغرق أهلها سيل عرم في زمن المماليك. ومع أن الأسماء المشاركة في الاحتفاء بالمدينة لا يرقى الشك إلى قاماتها العالية، فإن للمراقب المتتبع أن يتساءل عن تغييب قامات أخرى لشعراء راحلين عشقتهم المدينة وعشقوها من طراز خليل مطران وميشال طراد وسعيد عقل. ولنا على وجه الخصوص أن نتساءل عن سبب تغييب شاعر كمحمود درويش الذي يحفظ له الكثيرون قولته الشهيرة «قمرٌ على بعلبك/ ودمٌ على بيروت». على أن بعض الملاحظات على وجاهتها لا تقلل أبداً من شأن المهرجانات الأم التي تقف على أكثر خطوط التماس بين الظلام والتنوير خطورة وضراوة، والتي تحولت مع الزمن إلى أيقونة من الجمال الروحي والمتعة البصرية والسمعية، وإلى رمز جامع لمواجهة اليأس والجهل والتصحر.
المصدر: السفير