عودة إلى قاتل اللوحة

الجسرة الثقافية الالكترونية

*عبد الإله الصالحي

 

ما تزال ملامح مدرسة الفن الجاهز التي أسسها مارسيل دوشان حاضرة حتى الساعة في الفن على مستوى العالم. ترك الفنان الفرنسي الطليعي وراءه أثر الثورة الجمالية والتشكيلية التي قام بها بعد أن انتقل بتطرف من الرسم إلى التجهيز..

متحف “بومبيدو” للفن المعاصر في باريس يستعيده في معرض يستمر حتى 5 كانون الثاني/ يناير. يقترح المعرض مساراً من تسع صالات وضع “بومبيدو” من خلالها أعمال دوشان في سياقها الفني والتاريخي الدقيق.

وإضافةً إلى عرض أعمال دوشان التشكيلية، عرضت أعمال لفنانين ألهموه أو عاصروه مثل سيزان ورودان وكادينسكي وبراك وبيكابيا وغيرهم. كما تتقابل اللوحات مع أعمال أدبية لمجموعة من كتاب أحب كتاباتهم مثل مالارميه ولوتريامون وروسيل وبروتون وغيرهم.

يستعين المعرض أيضاً بصور وأفلام وآلاتٍ تعكس المناخ التقني والصناعي الذي تنّفس فيه دوشان وبنى في سياقه قناعاته الجمالية، وهو الشغوف المنصت لانشغالات عصره.  فتارةً نراه ميالاً إلى التيار الدادائي كما في سلسلة رسوم بعنوان “إيكونوكلازم”- الذي كان أبرز مثوّريه، وتارة أخرى نراه مقلّداً للفنان بول سيزان ومدرسته “التوحشية” في لوحة “عري بجوارب سوداء” (1910). كما نراه في لوحات أخرى متأثراً بالتكعيبية أو السورّيالية.

هكذا يضع المعرض أمامنا عدة أدوات في محاولة للإجابة عن سؤال أساسي: هل يتعلق الأمر بمسار فني متصل أم بانقطاعات مختلفة؟ أم أن دوشان الرسام وجد نفسه في مأزق إبداعي جعله يغير بوصلته و”يقتل اللوحة” مدشناً بداية الفن الجاهز بلوحة “LHOOQ” التي رسم فيها شارباً على وجه الموناليزا ثم لاحقاً قطعته الشهيرة “المبولة”؟

 

لا يعطي هذا المعرض أجوبةً محددة بقدر ما يلامس احتمالات عدة، لكل واحدة منها صداها في الأعمال المعروضة. إذ أن المشاهد يبقى متأرجحاً بين دوشان التشكيلي ودوشان “التجهيزي”، من دون أن يرى معالم واضحة لمرحلة مفصلية أدت لخصامه مع التشكيل، تلك القطيعة الحاسمة التي عكستها جملته الشهيرة “كل شيء جميل حتى صندوق القمامة”.

غير أن المحيّر في مسار دوشان يتمثل في سلسلة الحفريات، التي أنجزها قبل وفاته بعام ووضع لها عنواناً مدرسياً بارداً “مقاطع مختارة”. فقد اختار في ختام مسيرته الفنية الصاخبة أن يعود إلى الرسام المبتدئ والناسخ،  كأنه أراد أن يعود إلى مرحلة جنينية كان يتحسس فيها طريقه إلى الفن. هل يتعلق الأمر، إذن، باعتراف ضمنيّ ومتأخرٍ بالدور الكبير للتشكيل والرسم في منجزه الفني؟

أحياناً يعطينا هذا المعرض الانطباع بأن دوشان يبقى رساماً رغم أنفه، لكنه سيبقى بالنسبة لمؤرخي الفن المعاصر أول فنان بشّر بنهاية اللوحة بمعناها الكلاسيكي، وأول من رفض مبدأ التكرار الذي يُعتبر المحرك الأساسي في الممارسة التشكيلية، وهو أيضا أول من فضّل أن يجعل من حياته عملاً فنياً بدل أن ينذر حياته لإنتاج الأعمال الفنية.    

 ـــــــــــــــــــــــــــــــــ

العربي الجديد 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى