«عيون كبيرة» لتيم بيرتون يقف على حواف القضايا الأساسية… الحكاية القويّة تتسرّب من شقوق السيناريو الضعيف

الجسرة الثقافية الالكترونية

*يارا بدر

المصدر / القدس العربي

ثورة فنية كبيرة كانت أمريكا تعيشها في الخمسينيات من القرن الماضي، ثورة في مجالات الموسيقى والتصوير والسينما والمسرح، خاصة الفن التشكيلي الذي اتخذ من مدن أمريكا ساحات انطلق منها إلى العالم، بعد أن مزج التجارب المتنوّعة العديدة التي ظهرت في الأربعينيات ومرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية (الدادائيّة- السيرياليّة- المُستقبليّة- التعبيريّة وسواها).
هذا في الوقت الذي كانت فيه أمريكا ومناطق مختلفة من العالم تشهد أكبر حراك مُجتمعي على مستوى الحريّات المدنية وحقوق الإنسان، كما على مستوى نضال المرأة من أجل نيل حقوقها السياسية والاجتماعية والاقتصادية.
يعود بنا فيلم «عيون كبيرة» من إنتاج عام 2014 إلى تلك الأيام، ليعرّفنا إلى بطلة لا تشبه نجمة السينما العالمية «مارلين مونرو» بشيء سوى شعرها الأشقر. يختار تيم بيرتون مخرج الفيلم أن يبدأ من حيث أنهى الكاتب المسرحي النرويجي هنريك إبسن مسرحيته الشهيرة «بيت الدمية»، وكأنّه يقدّم تصوره الخاص للسيناريو الذي ربما خطّته «نورا» بطلة المسرحية، بعد أن صفعت باب منزلها خلفها وهجرت هذا العش المرتب منذ عصور، الصفعة التي وصفت آنذاك (1879) بأنّها هزّت أوروبا.
إلاّ أنّ تصوّر بيرتون ليس محض خيال، بل إنّه مبنيٌّ بالاستناد إلى أحداثٍ واقعية هي حكاية السيدة «مارغريت» التي هجرت زوجها وأخذت ابنتها ومجموعة رسوماتها عام (1958) وانتقلت إلى مدينة أخرى، لتكون أمّاً عازبة، تحاول التمرّد على تربيتها الكاثوليكية الدينية والاجتماعية البطركية، وتشق لنفسها طريقاً في عالم الفن، تراه بعيون أبطال لوحاتها الواسعة، تلك العيون التي وصفت بـ»العيون المجنونة».
لكن الثورات التي تسعى إلى تغيّر جذريّ لا تكون كما تقدّمها لنا السينما الهوليوودية للبطل الخارق، بل واقعية تحتمل التغيّرات والانكسار، وحتى الانحراف أحياناً عن مسارها، من دون أن يعني هذا أنّ جذوتها انطفأت أو خمدت نارها. «مارغريت» ترى في السيد «والتر كين» الذي يقدّم نفسه سمسار عقارات ناجحا، وفنانا هاويا شغوفا، وعاشقا، ورجل منزل مناسبا لها ولابنتها ليؤمن منزلاً واستقراراً مالياً. لكنها ما تلبث أن تكتشف أنّها ضحيّة لعبة مالية، أخلاقية، حيث يستغل السيد «والتر» توقيع زوجته باسم عائلته وفق الأعراف القانونية والاجتماعية على لوحاتها، ليبيعها وينسبها لنفسه. يُشرك «والتر» زوجته في اللعبة تحت التهديد بالفقر، بالفشل من دونه، ويحوّلها إلى شريكة في الإساءة لنفسها كلّ يوم، تكذب على نفسها وعلى العالم، حتى ابنتها وأعزّ صديقاتها.
طوال عشر سنوات احتال «والتر كين» على العالم، حتى قرّرت «مارغريت كين» في بداية ستينيات القرن العشرين أن تنهي هذه الشراكة، الزوجية، المهنيّة، بعد أن انتهت عاطفياً بأشواط. تخرج إلى العلن وتصرّح بحقيقة نسب اللوحات لها، وكيف استغلها زوجها، الأمر الذي يقود كلاهما إلى قاعات المحكمة التي شهدت واحدة من أغرب المحاكمات، حيث انتهت المواجهة الكلاميّة بين السيد والسيدة «كين» إلى امتحان في الرسم، بكل بساطة. يومها فازت السيدة مارغريت باللوحة التي رسمتها في قاعة المحكمة، لفتاة بعيون واسعة، مجنونة، تنظر من على الحافة إلى العالم الجدي، وسمتها «القطعة رقم 224».
يمكن أن نقرأ الفيلم باعتباره سرداً سينمائيّاً لقضية تحرّر امرأة من المكبوت اللا واعي في ذاتها، من تربيتها على قيمٍ محدّدة حول الصواب والخطأ، من أعراف كنيسة تقول بانصياع الزوجة إلى حكمة ربّ المنزل القادر أكثر منها على تحديد الصواب والخطأ. في الوقت ذاته يعرض الفيلم أنموذجاً عن حقوق الملكية الفكرية، وحق المُبدّع في الاحتفاء بإبداعه الذاتي، الشخصاني، الفردي جداً. وبشكلٍ عابر يعرض الفيلم للعلاقة الإشكاليّة، التاريخيّة، بين المُنتجٍ الفني والمسوّق، بين الإبداع والتسويق لهذا الإبداع، التي كانت الفنون التشكيلية والتصويريّة أحد أكبر ضحاياها، إذ أمام الفن التشكيلي يقف السؤال النقدي الأكبر عالقاً في الهواء: ما هو الفن؟!
لكن هل كان الفيلم على هذا القدر من التحدّي؟ عن دورها في شخصيّة السيدة «مارغريت كين» نالت الممثلة آيمي آدامز قبل أيام جائزة «الغولدن غلوب» لأفضل ممثلة، وتذهب إلى ترشيحات «الأوسكار» بقوّة، إلاّ أنّ أداء «أدامز» لم يكن كافياً وحده لإنقاذ الفيلم الذي يعاني من سيناريو ضعيف، يقع في مطب مقاربة الكليشيهات المكرّرة أكثر من مرّة، خاصة في مشهد المحاكمة الذي يفترض أنّه أحد أهم مشاهد الفيلم على الإطلاق، والذي قارب الرسم الكاريكاتوري أكثر من أي شيء آخر، في خلل واضح ضمن إيقاع الفيلم الدرامي، المشحون بعنف الصراعات التي تخوضها شخصيّة السيدة «مارغريت كين» مقابل ما أظهره الفيلم من شبه «ثنائية قطب» في شخصيّة السيد «والتر كين»، وصفته «السيدة كين» في مُحاكمتها بأنّه يعاني من عقدة «مستر جيكل ود. هايد» القديمة.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى