غازي قهوجي: أخطاء رهيبة في الأزياء والماكياج والأكسسوارات

الجسرة الثقافية الالكترونية-السفير-

 

لا يُمكن الجلوس إلى غازي قهوجي، من دون أن تحتل النكتة المستلّة من وقائع الكلام والواقع مكانة بارزة لها. سخريته رائعة. كلامه مُتقن. ضحكته جميلة. تحليله عميق. نظرته ثاقبة. ذكرياته جزءٌ أساسي من تاريخ بلد ومهن وإبداع. “قُربه” من كبار أتقنوا فنّ اختراع الجمال أتاح له معرفة تختلف عن معارف كثيرين. أتاح له أيضاً تكوين أرشيف شخصي وعام، قابل لأن يكون مرآة مجتمع وحكايات أناس. اختصاصاته المهنية التقنية لا تقف حائلاً دون اشتغال المخيّلة، إن لم تكن ـ بالنسبة إليه على الأقلّ ـ محفّزاً لاشتغالها. صداقاته الفنية كثيرة. صداقاته الشخصية أيضاً. تواضعه لا يُلغي ثقته بنتاجاته. بساطته امتدادٌ للغته المبدعة في الفن والكتابة. صراحته أداة للاعتراف والبوح، كأن يُردّد دائماً أن للأخوين الرحباني “فضلاً كبيراً” عليه: “ربع قرن أمضيته مع عاصي تحديداً”. هذا ليس مجرّد رقم، أو وقت. هذا أكثر بكثير، وأعمق بكثير.

اختصاصات غائبة

في مقابل هذا، هناك صعوبة في اختيار مدخل ما إلى حوار معه: السينوغرافيا. التصميم المشهديّ. الأزياء. الفن التشكيلي. الديكور. الرسم. الكتابة. التدريس. الحياة اليومية. تحويل “المهمَّش” إلى قراءة واقع اجتماعي متكامل. حماسته في الحديث عن الأزياء المعاصرة والأحذية والأكل والناس البسطاء ـ الذين يملكون ذاكرة شفهية يراها مهمّة وأساسية في التاريخ العام ـ لا تخفّ عند حديثه عن اشتغالاته واختصاصاته وذكرياته، وهذه الأخيرة مشبعة بحضور عاصي وزياد الرحباني تحديداً، وجوزف حرب “الصديق الكبير”. مع هذا، يميل الحوار إلى التقنيات، لخلل كبير في اشتغالاته اللبنانية والعربية. نقمته على فعل التجهيل الذي يُمارسه التلفزيون تتوافق وغضبه المبطّن من أسلوب التدريس الجامعي، المفرَّغ من أساتذة ذوي اختصاصات تقنية معمّقة ومفيدة.

الخلل كبيرٌ في آلية الاشتغال على بعض أبرز تقنيات الأعمال المرئية، السينمائية والتلفزيونية، كالأزياء (درّس قهوجي مادة تاريخ الأزياء في جامعات لبنانية عديدة) واختيار أمكنة التصوير وغيرهما: “هناك شكلان من الإنتاجات الفنية السينمائية والتلفزيونية: المضمون المعاصر، أو ذاك المنتمي إلى مرحلة تاريخية معيّنة. في الحالتين، يتطلّب الأمر تدقيقاً جادّاً في اختيار الأماكن المناسبة للتصوير، والأزياء والأكسسوارات، وحتّى طريقة الماكياج، بالإضافة إلى ضبط الألوان التي تُشارك في إبراز سمة العصر، بشكل أو بآخر”. يُضيف قهوجي: “هناك ضعفٌ، بل تخلّفٌ، في المجالين السينمائي والتلفزيوني بالنسبة إلى الإضاءة مثلاً. لم نستطع لغاية الآن تحقيق إضاءة سوية وفنية في الأعمال المرئية تنمّ أو تشي بالعصر الذي تدور فيه أحداث الأعمال هذه. حتّى لو كان التصوير داخلياً (أماكن مقفلة، استديو). لم نستطع لغاية الآن التقاط الهوية الدقيقة لما نقوم به. هذا عائدٌ إلى سرعة تنفيذ الأعمال، وهي سرعة غير مُبرّرة، بالإضافة إلى واقع الميزانية الموضوعة للإنتاجات، وهي غير مدروسة على هذا المستوى”. يُريد قهوجي الاستفاضة بكلام حول هذه النقطة. يقول: “في الغالبية الساحقة من الأعمال التاريخية أخطاء رهيبة في الأزياء والماكياج والأكسسوارات. مثلاً، هناك عمل منتم إلى عصر ما قبل الإسلام (لا أستخدم مصطلح “العصر الجاهلي”)، لكن الممثلين يرتدون أزياء منتمية إلى العصر العباسي أو العصر الأندلسي. برأيي، هذه عملية تجهيل للمُشاهد. كيف؟ أُعطيك مثلاً: أحد طلابي الجامعيين كُلّف ذات مرّة بتصميم أزياء خاصّة بعصر ما قبل الإسلام، فكانت النتيجة كلّها أخطاء بأخطاء. سألتُه عن المرجع الذي اعتمد عليه، فقال لي: “التلفزيون”. كارثة كبيرة أن يكون التلفزيون مرجعاً”. يُضيف قهوجي: “الشخص الوحيد تقريباً لغاية الآن الذي استخدم أزياء بشكل علمي موثّق اختارها بعد إجرائه دراسات معمّقة هو الراحل مصطفى العقّاد في فيلميه “الرسالة” و”عمر المختار”. فيلمان لا غبار عليهما”.

لكن، هل الدراما السينمائية والتلفزيونية “وثيقة”، كي يكون الاهتمام بالتفاصيل دقيقاً إلى هذا الحدّ؟ “على مُصمّم الأزياء أن يضع نفسه في العصر المطلوب. أن يدرس عميقاً عادات هذا العصر وإمكاناته الاقتصادية ورؤاه السياسية والثقافية والفنية، وأن يكون مُصمِّماً يعيش في ذاك العصر. بعدها، يمكنه وضع إضافات معينة تحدّد هوية الشخصية، من دون أن يخون الوثيقة التاريخية للزيّ. في الفن، وأنا أتحدّث هنا عن الكبار المبدعين الذين يمتلكون فيضاً في الرؤية، ليس المهم أن تُضيف، بل أن تحذف”.

مسؤولية الانحدار

هذا تأكيدٌ مسبق لسؤال يتناول حقيقة غياب مراجع تاريخية متعلّقة بهذه التفاصيل الأساسية، والمنتمية إلى عصور قديمة جداً: “هناك مراحل تاريخية “موثّقة” في كتابات أو آثار موزّعة على النحت والرسم والتصوير. مثلاً: التاريخ العربي. ليست لدينا وثائق مرئية عنه إلاّ نادراً. شخصياً، قرأتُ الشعر العربيّ القديم كلّه كي أستخلص منه الألوان السائدة حينها، وأنواع الأقمشة التي كان يرتديها الناس حينها. قمتُ أيضاً بدراسة المناخ المسيطر، الذي له دورٌ كبيرٌ في شكل الزيّ. الملابس العربية في الجزيرة فضفاضة، لأنها تحقّق نوعاً من الابتراد في ظلّ جوّ حار”. يقول أيضاً: “ترك اليونانيون القدماء تماثيل كثيرة وجداريات كبيرة (فريسك) كشفت لاحقاً أزياء كاملة خاصّة بتلك العصور. منذ القرون الوسطى، حفلت أوروبا بكَمّ هائل من الرسّامين الذين تركوا ذخراً كبيراً من رسومهم الكاشفة أزياء متنوّعة، بألوانها وأشكالها وموديلاتها. هذه مراجع أساسية مهمّة. شبكة “إنترنت” غير موثوق بها على هذا المستوى، خصوصاً بالنسبة إلى متخصّصين”.

إذا كان التلفزيون “كارثة”، أفلا تتحمّل الجامعات ومناهج التدريس مسؤولية في عملية التجهيل أيضاً؟ يقول غازي قهوجي: “إنها مشكلة مزمنة. على مدى أعوام عديدة، اقترحتُ ضرورة إدراج اختصاصات معينة تتعلّق بأمور أراها أساسية في الفن المرئي: دراسة تاريخ الأزياء وتاريخ الأكسسوارات (المفروشات والبرادي والأدوات المستعملة يومياً، التي تتغيّر بين عصر وآخر)، بالإضافة إلى الدراسة المعمّقة لتاريخ الفن التشكيلي. هذا كلّه لم يتحقّق. أضف إلى ذلك غياب أساتذة يُدرّسون هذه الاختصاصات. إذا لم يكن هناك جسم تعليمي متخصّص بهذه المسائل الفنية والتقنية، لماذا تُفتح في الجامعات فروعٌ لها؟ معاهد السينما مثلاً محتاجة إلى تجهيزات فنية رفيعة المستوى، وأساتذة متخصّصين، وبرامج لاستضافات مستمرة لمتخصّصين من خارج لبنان يُقدّمون محاضرات متخصّصة”.

أعترفُ بأني مُقصّر في هذا الحوار. هناك صعوبة في أن يشتمل على الاختصاصات الفنية لغازي قهوجي، في حيّز صغير كهذا. اخترتُ بعض التقنيات لكونها أساسية في صناعة الأعمال، بينما هي شبه غائبة عن معظم هذه الأعمال. أردتُ إيجاد توازن بين الخبرات الكثيرة لقهوجي والواقع الراهن. لم أسأله عن أمور كثيرة. اكتفيتُ بهذا القدر. لكنّي أردتُ التوقّف معه عند تجربة المهرجانات الفنية اللبنانية، هو الذي يمتلك رؤية لصناعتها، ونظرة فنية لتصميم حفلات افتتاحية لمؤتمرات ومباريات رياضية متفرّقة: “فكرة إقامة مهرجانات فكرة جيّدة، خصوصاً أن لبنان لديه مواصفات سياحية ملائمة، كالمناخ الجيّد، والآثار القيّمة، والمنتجعات الصيفية، والمسافات القصيرة بين المناطق والأمكنة. لكن المشكلة كامنةٌ في غياب بيئة حاضنة للأعمال الكبيرة في المهرجانات. يكاد الحضور يكون هو نفسه، أي ما يُقارب 3 آلاف مُشاهد ينتقلون بين هذا المهرجان وذاك. طبعاً أتحدّث عن المهرجانات الراقية فنياً. المهرجانات الأخرى تستقطب آلافاً من الناس، تلك التي يُحييها نجومٌ أو مدّعو نجومية. هل يُعقل أن يبلغ عدد مشاهدي حفلة فنية لنجم أو مدّعي نجومية 100 ألف، بينما لا تستقطب فيروز مثلاً أكثر من 3 آلاف؟”. يقول قهوجي هذا بمرارة دفينة، مضيفاً أن الانحدار “هو الوجه الآخر للسياسة والاقتصاد اللبنانيين. يبدو لي أن وحدة الفساد هي التي تجمع اللبنانيين بعضهم إلى بعض. اللبنانيون يهربون إلى الأسهل والسريع، متوّجين هذا كلّه بالنراجيل، وهم يظنّون أنهم يشربون “نَفَساً واحداً”. يُنهي قهوجي كلامه بتلك السخرية الضاحكة والعميقة: “برأيي، هذا يُحقّق الوحدة الوطنية. حين طُرحت مقولة أن لبنان لن يُحلّق إلاّ بجناحيه المسيحي والمسلم، تبيّن لاحقاً أنه حلّق فعلياً إلى درجة أن البلد “طار” كلّياً”.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى