«غريس موناكو» في «كانّ».. الأميرة في حلة جان دارك

الجسرة الثقافية الالكترونية-السفير-
(14 ـ 25 أيار 2014) للمهرجان. فقد سلّط أضواء جادة الـ«كروازيت» على إحدى أميرات شركة «بيفرلي هيلز»، قبل أن يخطفها أمير حقيقي. لكن نتيجة أفلمة جزء من حياتها ويومياتها في «قصر موناكو» وقعت ثقيلة على رأس النقاد والصحافيين بُعيد العرض الخاص بهم، لترتفع همهمات الاستياء لما تضمنه جديد الفرنسي أوليفييه دهان «غريس أميرة موناكو» من خيبة سينمائية خالية من ألق شعّ في عمله الأخاذ «لا موم» (2007) عن إديث بياف.
على النقيض تماما، تأتي غريس كيلي محمّلة بلمعان الصنعة وتلفيقاتها. تصبح ابنة أغنياء ولاية فلادلفيا، على يدي البريطاني ألفريد هيتشكوك في «النافذة الخلفية» (1954) وزميله فرد زينمان «عزّ الظهيرة» (1952)، علامة الوجاهات الفنية وأرستقراطية نخبتها. لا يقارب دهان هذا كله. لن يتوسل خلفية تأريخية لحسناء «مترو غولدين ماير»، بل يُشدّد على دور مضمر خلال أزمة سياسية بين زوجها الأمير رينيه الثالث وشارل ديغول وطاقم إدارته (1962). بقي نصّه يدور حول نقطة أمومتها وانغمارها في «إتيكيت» طبقة نبلاء غريبة عن طابعها الشخصي وعفويتها. صوّرها دهان بوجهين: هي أشبه بيافعة ترغب في الحفاظ على طلّة تتماشى ونجوميتها، وملبسها، ومكياجها، ولهوها، وغنجها. وهي امرأة تفرض عليها ظروف ومؤامرات صخرة موناكو أن تتحوّل إلى سيدة حكم وقرار و«بسالة» دون كيشوتية. الحاسم أن الفيلم أنشودة شخصية بحته، وتصوّر سينمائي لما يفترض به أن يكون قد وقع بين جدران «قصر غريبالدي» المنيف. لكن تنديد أولادها بالفيلم جعل من الصعب على مشاهده النبيه أن يقع في براثن معادلة درامية مخاتلة وملتوية، وضعت الزوجة في رأس حربة لرجل متردّد وضعيف الإرادة، تنتابه لحظات يأس أكثر من حصافة السياسي المتمرس. أسقط دهان كل ما يتعلق برجل أنهض الإمارة من رمادها، وأسّس نظاماً مالياً أشاد به مؤرّخوه، في مقابل اتّهامات آخرين بأنه منحلّ، قائم على ربا المقامرات وفساد ذمم مدرائها ووسطائها.
لا مصادفات لدى غريس (نيكول كيدمان)، بل مخطّط قدري قادها إلى المجد، وهو ما تعكسه بحسم كلمتها الافتتاحية في أن «فكرة سيرة حياتي كحكاية خرافية هي، في حقيقتها، حكاية خرافية»، قبل أن نتابع خطوات هيتشكوك وهو يُقاد إلى عرشها، عارضاً عليها العودة إلى الشاشة في مشروع فيلم «مارني»، الأمر الذي يحاكم خصيصتين فيها: إيمانها بأن السينما خيار لا نهاية له، لن يسقط (الخيار) إلا لمصلحة عائلتها، والذود عن أفرادها، وتسلسل تاريخها، وضمان سلالاتها. روح تعظيم قرارها الأخير لا يتمّ فقط عن طريق كلمات، بل عبر مشهديات مفخّمة ومفعمة بأنوار ربانية تنثال على محيطها وخطواتها و«مناوراتها» السياسية. ثنائية البحر وزرقته وأرستقراطية بناء «قصر موناكو» وزخرفاته وثراء أكسسواراته (تصوير أريك غوتييه)، جعلت مولاته أشبه بربات الميثولوجيات الإغريقية، حيث الحظ كالقوّة لا يملكهما سوى آلهة.
هل حقاً تمادت الأميرة في مناكفة فرنسا باسم وطنيتها «الموناكوية»؟ هل يُعقل أن تكون امرأة وافدة أكثر حماسة لمواطني الإمارة من زوج (تيم روث) لم يخاطب رعيته مرّة، في مقابل خطبتها الرنانة أمام ديغول، المتشابهة وصراخ مارك أنتوني أمام جثمان يوليوس قيصر، لتجييش الرعاع ضد قتلته؟ هل أرّخ أكاديمي ما ذلك التعليق الفجّ لوزير الدفاع الأميركي روبرت ماكنمارا أمام بطل تحرير فرنسا في الحفل الخيري الشهير للصليب الأحمر الدولي: «هل ستتجرّأ على إلقاء القنابل فوق رأس كيلي»؟
لا خلاف على أن نص دهان سقيم إلى حدّ جعل ممثلة سينما وافدة أقرب إلى قوّة جان ـ دارك في عراكها، وحجمها في تضحيتها وبأسها، ما يفسّر غمزه إلى هالة دينية مضمرة تحمي خطواتها، متمثّلة بقس يعضدها ويمدّها بصون أبوي، على أمل أن تحمل صليبها على درب جلجلة حصار جائر، ومؤامرة خسيسة لأفراد من عائلة زوجها، سعوا إلى الاستئثار بالعرش، ما إن تفلح في وأدها كلّها، حتى نسمع الأمير يهمس في أذنها لمرّة فريدة: «أحبك»، مختتماً فيلماً حَرَن بين أن يكون حكاية بخت فاشلة، أو أن يكون سيرة مأثرة إنسان وقع ضحية تطبيل فارغ، أو أن يكون خطاب تمجيد زلّ نحو التبجّح.