غسان زقطان شاعر يكتب بيقظته

الجسرة الثقافية الالكترونية

*مازن معروف

المصدر: الحياة

 

العبارة في نصه تشتمل على علاقة خاصة بين الشعري والتاريخي، مثل كينونتين كبيرتين. اليومي كـ «ملحمي موقت»، متجدد ورمزي، لا يمكن أن يشار إليه كذلك بمعزل عن الموروث المعرفي. قصيدة غسان زقطان، في مقاربتها للتاريخ كثقل مؤسس للحاضر في «أرض كنعان» وفلسطين الحديثة تحديداً، ومن ثم صورة الشرق الاوسط الراهن ككل، تتراءى كمساحة مفخخة بالإشكاليات. والإشكاليات هنا، لا تقتصر على بحث الشاعر جمالياً في ماهية الشعر و»تراكبيه» و «وظيفته»، بل أيضاً على اختبار أبعاده الحسية حين ينغمس في موقف سياسي أو وجودي ما. زقطان الذي يزاول القصيدة منذ أواخر السبعينات، يفتح في مجموعته الأخيرة «لا شامة تدل أمي عليّ» (دار الاهلية للنشر والتوزيع) أبواباً جديدة على «حقل» القصيدة.

الشعر لا يحضر كمجرد مشاكسة بصرية للحاضر، ولا كسلوك لإضافة أبعاد سوريالية على واقع مادي صدئ. ولا هو توليفة طويلة من عبارات مندفعة ومتحمسة لإعلان موقف «حاد»، «صاخب» و «مجنون» مما يحيط بنا. إنه مقتضب، بعيد من أي ثرثرة تتجانس وهوية الزمن الذي نعيشه. كينونة الشاعر كفلسطيني، بكل المسؤولية السياسية والإنسانية التي تحملها، لا تكتمل إلا بانصهارها شعرياً في محيط أرحب. فالكتابة أكثر بكثير من نزعة.

ما يلفت هو أن زقطان يبدو كأنه يكتب بيقظته، بإدراكه للتجارب والمساحات الشعرية المتداولة أوروبياً منذ ثلاثينات القرن الماضي، وفلسطينياً وعربياً منذ منتصف الستينات. إنه شاعر لا يترجل عن وعيه لحظة. فالقصيدة لَحْمٌ وفكٌّ وبرهات وأصوات. كذلك، هي سينوغرافيا متحوِّلة، تتنفس على مهل، وعلى القارئ متابعتها حتى النهاية. إذ لا يمكن لأي مقطع فيها أن ينفصل عن «أخوته» أو أن يتجرد تماماً. القصيدة حصيلة مونتاج دقيق ومستغرق في الشعر. كما لو أن الشاعر لا يكف عن التلفت حوله أثناء الكتابة، كي لا يصيب في أسلوبه صورة أحد الشعراء القريبين منه أو البعيدين. وإذا كان لكل مدرسة في القصيدة، في أنطولوجيا الشعر العالمي، «منطق»، فإن زقطان يجتهد ليبتكر «منطقه» الشعري الخاص. سعيه لاقامة نوع من مقاربة للبيئة الوجودية إنسانياً والفوضوية سياسياً التي هو على تماس يومي معها، يبدو بارزاً. وأيضاً تعاطيه مع الاستعارة كبطانة لا تعلن عن نفسها مباشرة.

في مجموعته الجديدة، يجيد تأثيث قصيدته بالمجاز. لنقل بنتف المجاز. فالمجاز هيكل واحد موزّع في أجزاء القصيدة ولن يُنجَز إلا بـ «اكتمال» القصيدة نفسها. إنها كحصان وشجرة متصلين بحبل. الأمر الذي يشترط جهداً ذهنياً وتنبهاً تاما أثناء القراءة. فالقصيدة لن تسمح باغفال أي من أجزائها. وأنتَ، كقارئ، لن تتصل بها إلا إذا تفحَّصْتَ كل كينونتها. بهذه الحساسية اللغوية والجمالية، يكتب زقطان نصوصه. «أعرف أنك لم تعودي معنية بفتح الزر الثالث من قميصك البرتقالي/ وانه لم يعد هناك قمصان برتقالية في خزانتك/ أعرف أنك تومئين برأسك الجميل المتعب عندما يعبر اسمي/ بحروفه الأربعة المرتبكة واتكائه المشوش على شدة معلقة من امامك/ وأنك لا تفعلين ذلك في أحيان كثيرة لأنك لا تتذكرين».

في الوقت نفسه، فإن قصيدته تخرج من مفكّرة الشعر الفلسطيني المنعتق في واقع جيو-سياسي معقّد. الحرب المعادة بالصيغ المعهودة، والأماكن بتفاصيلها وركائزها، تمثّل موضوعاً دينامياً ومتجدداً. والفجيعة يتم توزيعها على الأشياء المحيطة بالكائن. إنها غير محسومة. وليست بُعداً منغلقاً على ذاته. زقطان يفضه، ويحوله جزءاً من السؤال الوجودي الكبير. لا مكان للعدم المطلق في قصيدته. والفسحة الشعرية موظَّفة لمسرحة هذا العدم. «حين يبصر الأولاد الذين نسيتهم الدوريات الميتة والأرتال المخدوعة/ والصيحات العالقة في مصائد الليل/ وهم يقطعون منهكين عتمة الجبل الباردة وعتمة الحقول المبللة/ نحو عتبة البيوت التي افتقدوها/ يدرك بقلبه، وعلى نحو يجهله تماماً، أنه وصل إلى بلاده».

مع ذلك، فإن قصيدته أيضاً حصيلة احتكاك بصري ومعنوي بأمكنة غير قريبة (واشنطن/ لوديف/ مدلين…). إنها، وبكل ما فيها، رقعة يحرك زقطان حساسيته فيها. كما لو أن لا حدود للجغرافيا الفلسطينية. جهده الشعري هذا، يأتي ليتمِّم صوت شعراء كبار، كصديقه الراحل محمود درويش مثلاً. والإنسان كحزمة سمات عليا، لا يتحقق إلا بمحاورة زقطان له وتتبّع بيئته. الرجل الهندي مثلاً. ثم إن اتكاءه في أحيان كثيرة على جملة سردية في شعره، يُمَكّنه من ولوج حكايات يومية، والاتصال بشخوص وتراجيديات أدبية وحياتية (ريلكه/ تولستوي/ كاواباتا..). إنه عبر إمكانات الشعر، يستطلع الأبعاد الإنسانية على اختلاف الثقافات المؤثرة في المجتمعات. زقطان الساعي للاتصال بالعالم، عبر رمزيات، يفيد في شكل خاص من أسفاره. كما لو أنه في حالة استفزاز شعري دائم. المرأة تشكل نقطة ثابتة في قصائده، يركّب محيطاً اجتماعياً وعاطفياً حولها، ويفعل حضورها بتجهيز المكان بالمعنى، دمشق بوجه خاص.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى