فؤاد العروي: الحياة وإلغاء الكيان الإنساني

*رامي الطويل- السفير
ين يتساءل آدم سجلماسي، بطل رواية «العودة إلى كازابلانكا» وهو في الطائرة، على ارتفاع ثلاثين ألف قدم: «ماذا أفعل هنا؟» يكون الكاتب والروائي المغربي، فؤاد العروي، قد اختار لبدء سرده ذروةً قصصية بامتياز، ليقوده هبوطاً، بالتوازي مع قرار بطله اعتزال السرعة التي فرضها العصر الحديث على الجميع، والعودة إلى زمن البطء الذي كانت الحياة فيه تبدو شاسعة أكثر. هو تناقض سيقوده الحائز جائزة «ألبير كامو» (1996 عن روايته أسنان خبير المساحة) نحو تناقضات تتوالى على مساحة الرواية، لتؤلّف صورة شديدة الواقعية عمّا يعيشه إنسان العصر الحديث عموماً، والإنسان المغربي، الذي ما تزال الحياة تتيح له شيئاً من البطء في بعض الأماكن النائية، على وجه الخصوص.
تناقضات تبدأ من الفارق المعرفي بين السجلماسي، المهندس المثقف، المتزوّج من امرأة تقليدية لم تحظَ بالتعليم الكافي، لتمتدّ إلى التناقض الصارخ بين السرعة التي تسلب الجميع مقدرتهم على الشعور بأنفسهم، والبطء، المنشود، الذي ما يزال يحكم بلدة صغيرة كأزمور، جنوب شرق الدار البيضاء، حيث عاشت عائلة السجلماسي، وحيث سيكون آدم الشاهد فيها على تناقضات تصل بمن يرقبها إلى الجنون.
السلطة تخاف البطء
أن يقرّر السجلماسي العودة لسرعة الكائن الطبيعية، رافضاً الوصول إلى كازبلانكا بواسطة سيارة، مفضلاً السير على قدميه، أو ركوب الحنطور أخيراً، هي مقدّمة للخوض في المغامرة الأكبر. فالبطء سيتيح له اتخاذ قراره بالتخلّي عن وظيفته المرموقة، والبحث عن زمن البطء الذي لم يعِش أيّ من أفراد عائلته خارجه. وهو ما سيقوده إلى الصندوق الخشبي العتيق في منزل عائلته، في أزمور، حيث تعيش النانا، زوجة عمّه العجوز، والطفلة خديجة التي أتاح لها وجودها في مكان ناء أن تحظى بثلاثة أسماء. من الصندوق ستخرج كتب التراث التي اهترأت وغطّاها غبار السنين، ومن بينها سيختار قصّة حي بن يقظان، كبوابة لإعادة قراءة تراث عملت السلطات الدينية والسياسة طوال عقود من الزمن على تجاهله. هناك سيتعرّف إلى قريبه عبد المولى، وسيعرف أنّ خياره الواعي بالعزلة في هذا المكان، سيخلق المعنى لأناس أمضوا عمرهم البائس ينتظرون المعجزات، مثلما سيخلق الخوف للسلطة الملكية التي تُخفي ديكتاتوريتها بقناع ديموقراطي باهت، مثلما تتلطّى خلف مسمّى العلمانية وهي تعمل على تكريس المفاهيم الدينية، وتبذل جلّ مقدرتها على تجهيل الشعب. سلطة يزعزعها خروج رجل واحد عن القطيع، وترعبها عزلته.
«الحياة في مكان آخر»
منذ السطور الأولى في الترجمة العربية لـ «العودة إلى كازبلانكا» المكتوبة بالفرنسية، والتي حاز العروي عنها جائزة «جان جيونو» عام 2014 مع صدورها تحت عنوان «مِحَن السجلماسي الأخير» يلوح طيف الروائي التشيكي ميلان كونديرا، حيث يتخذ آدم السجلماسي قراره بالتنحّي عن عالم السرعة، ليكون البطء بذلك هو ثيمة الرواية الأساسية، ما يعيدنا إلى رواية كونديرا «البطء» وتساؤلات بطلها: «لمَ اختفت لذّة البطء؟ أين هم متسكّعو الزمن الغابر؟ أين أبطال الأغاني الشعبية الكسالى، أولئك المتسكّعون الذين يجرّون أقدامهم بتثاقل من طاحونة إلى أخرى؟» التي تتقاطع مع تساؤلات السجلماسي حين يستعيد زمن البطء: «أدرك آدم أنّ جدّه لم يتجاوز قطّ سرعة حصان يندفع خبباً في أحد سهول دُكالة، وكان في ذاك الخبب كلّ النبالة التي قد يصبو إليها إنسان».
لم يحاول العروي إخفاء طيف كونديرا عن سرده، بل جاهر به حدّ عنونة أحد فصول الرواية بـ «الحياة الحقّة في مكان آخر» في محاكاة وتوكيد واضحين لرواية كونديرا «الحياة هي في مكان آخر». وهو ما يفسّر أيضاً بعض الشبه مع كونديرا في أسلوب بناء الرواية، إذ لجأ العروي إلى تقطيع نصّه إلى مقاطع قصيرة، لكلّ منها وحدته البنائية المستقلّة، مستفيداً بذلك من تقنيات القصّة القصيرة، هو الحاصل على جائزة «غونكور» (للقصة القصيرة، 2013 عن مجموعته «قضية بنطال داسوكين الغريبة»)، الأمر الذي نظّر له كونديرا وشرحه بإسهاب في كتابيه «الخلود» و «فن الرواية». وربّما يكون للشبه بين الكاتبين من حيث كونهما يكتبان باللغة الفرنسية دوره في شيء من الشبه بينهما بطريقة بناء الجملة الروائية، وكذلك اعتماد الفكاهة المستترة في طيّات السرد وسيلة لتوضيح تناقضات الواقع الصارخة.
كلّ ذلك لم يمنع عن «العودة إلى كازبلانكا» الاحتفاظ بخصوصيتها الروائية، إن كان لناحية المقدرة على جذب القارئ إليها، أو لناحية استطاعتها مقاربة الواقع المغربي بشكل خاص، والعربي عموماً، بطريقة موضوعية تشرح ما يعانيه العالم اليوم من انقسامات حادّة تعمل على إلغاء الكيان الإنساني، إمّا لصالح سلطات سياسية لا ترى فيه غير تابع يمجّدها بالهتاف، أو لصالح سلطات دينية لا يمثّل بالنسبة إليها أكثر من خادم أخرس أمين بعيون مغمضة، وما بين هذا وذاك يبقى الجنون ملاذ من اختار الخروج عن القطيع، والانتصار لفكرة الإنسان.
صادرة عن دار الساقي، 2016، ترجمة لينا بدر