فؤاد قنديل «راهب» القصة المصرية الثائر متأخراً

الجسرة الثقافية الالكترونية

*ابراهيم فرغلي

المصدر: الحياة

 

سمتان تشكلان الصورة الذهنية الخاصة بالكاتب المصري الراحل فؤاد قنديل هما الموظف، ثم المخلص الدؤوب. مظهره وسلوكه النبيل يعكسان شيئاً من الكلاسيكية. البدلة وربطة العنق وطريقة الكلام والتهذيب البالغ. فيه مسحة من ماضٍ بعيد، أو مما نطلق عليه في مصر الماضي الجميل، كأنه كان مصراً على اصطحابه معه حيثما ذهب. وأظنّ أنّ هذه السمات انسحبت على مشروعه الأدبي على نحو ما. فلغته الأدبية هي في شكل عام لغة رصينة جميلة، ولكن بلا مفاجآت أو نزعات تجريبية أو حداثية. وربما أيضاً في كثير من أفكار قصصه ورواياته التي اعتمدت بمعظمها الواقعية الأدبية منهجاً وأسلوباً. وعلى رغم أن بعض من تناولوا أعماله يصفون لغته بالشعرية، فإنني على العكس لا أرى ذلك، على الأقل في حدود النصوص التي قرأتها له، والتي بدا فيها متمكناً من لغته، لكنها في النهاية تقليدية وبسيطة، ولا تتمتع بأي سمت خاص.

لكنّ الدأب والإصرار ومتابعة الأعمال الأدبية للأجيال الجديدة شجعته في ما أظن على أن يحاول الاجتراء على الخيال والرمزية لاحقاً، واستلهام الواقعية السحرية خصوصاً في عمله المميز «روح محبات»، والذي اختلق فيه بـناء رمزياً يعتمد الفانتازيا من خلال قصة ديك ينتمي إلى سلالة أميركية، ينمو في ملحق الدواجن الخاص بسيدة ريفية في إحدى قرى مصر، ويمرّ بتحولات عجيبة، بحيث يتضخم الى أن يصبح بحجم رجل. فيبدأ بالتلصّص على السيدة وهي ترتدي ملابسها، يعـــاشرها جنسيًا، ثم ينتقل إلى كــــل بيـــــوت القرية ويغتصب بناتها لإشباع غـــرائزه ومطامعه. هذا الديك الفحل أخذ يلـــهو بشرف القرويين البسطاء الذين تمــــلكهم الشعور بالخزي والضعف. وركز قنــــديل في هذه الرواية على مفردات الحـــياة والقيم الريفية وكيفية تغير حالها بفعل العبث الأجنبي، «الأميركي». وأظنّ أنّ هذا النص هو من النصوص المهمة بين أعمال قنديل لأنها مزجت الحكي والسرد بواقع فني موازٍ منح النص طابعاً فكرياً لم يتوافر في كثير من أعماله الأخرى.

وفي سيرته الروائية «المفتون»، يبدأ النص بمقدمة خيالية يبدو فيها النص مختلفاً يجنح صوب الفانتازيا والخيال، لكنه يكتفي- للأسف- بالتقديم ويعود إلى الواقعية في بقية النص كاملاً؛ مضيئاً سيرة حياته وحياة عائلته وجذورها والتقلبات الشديدة التي مرت بها العائلة بين الريف والقاهرة والأقاليم، وما تبع أو صاحب تلك التنقلات من تبعات اجتماعية عليه وعلى أسرته. وهو يقدم في ثنايا السرد نقداً حاداً وشديداً للعائلة، وأحياناً لذاته كلما أحس انه ورث عما ينتقده فيها مسلكاً أو طريقة تفكير. الأمر الذي يمنح هذه السيرة العذبة والصادقة أهمية كبيرة.

وبسبب هذا الانتماء الواقعي أظنه وقع في فـخ الاستجابة لتأثيرات أحداث الثورات العربية والمصرية على نحو خاص من خلال روايته «دولة العقرب» التي تأثر فيها برصد فترة وصل خلالها الإخوان إلى الحكم، مصوراً العوامل والعناصر التي تربصت بالثورة الشابة (يرمز لها بالعقارب)، وأفشلتها وأوصلت الإخوان الى الحكم. وعلى رغم الأجواء القاتمة للعمل وما يعاني منه الأبطال، بدا جلياً اختتامه النص بما يشبه النبوءة حول حتمية انتهاء فترة حكم الإخوان أو نهاية عصر الظلام الذي امتدّ على صفحات الكتاب.

ولكن يبدو أن قنديل كان منشغلاً، كما شأن غالبية المصريين – في الفترة التي سبقت الثورة بنحو عقد كامل – بفكرة الخلاص والكيفية التي يمكن بها أن تتخلص مصر من الكابوس الجاثم على قلبها.

وقال في أحد الحوارات التي أجريت معــه قبــــل وفاته: «القصة القصيرة هي الأقدر على تجسيد انفعالنا الفجائي بالثــــورة التي لا ندرك أبعادها. هذا المزيج الثـــوري العارم لم يكن باستطاعتي إلا رصده والتعبير عنه مثلما فعلت في مجموعتي القصصية «ميلاد في التحرير»، التي دونت أفكارها أثناء مكوثي لمدة 11 يومًا في الميدان، تشبعت فيها بكمٍ هائلٍ من الحكايات والانفعالات وصور مقاومة الثوار ورائحة أجساد الشهداء، الأصوات والهتافات. أما الرواية فتحتاج إلى رصدٍ متأنٍ لكل معطيات المشهد، لكشفه بعمق وتقـــديم بُعـــدٍ جديد فيه. هذا البُعد قد يسبق الحدث نفسه بما يشبه التنبؤ، مثــلـــما فعلت في روايتي «قُبلة الحياة»، التي أصدرتها على نفقتي الخاصة عام 2004 بعدما رفضتها دور النشر لأنها تسلط الضــــوء على فساد مبارك ونظامه المهيمن آنذاك، وأنهيتها بأن الموتى خرجوا من قبـــورهم ليبدوا احتجاجهم على ما يجري لأبـنــائهم الأحياء، فاجتمعوا معهم في ثورةٍ عـــارمــــة تمتد بعرض الوطن، وهو ما تحقق في 2011 من دون خروج الموتى بالطبع».

على رغم انتماء قنديل إلى جيل الستينات، فهو ظل سنوات طويلة بعيداً عن الأضواء، واعتبرت أعماله كلاسيكة وواقعية، ولا أدري إن كان عدم انتمائه إلى اليسار المصري سبباً في تنحية الضوء عنه، أم أن سمات أعماله الأولى الكلاسيكية هي التي تسببت في ذلك. لكنّ اللافت أنه استطاع خلال العقد الأخير تجاوز هذه الدائرة، على رغم عدم الاحتفاء النقدي به بما يتناسب مع حجم إنتاجه الذي ناهز نحو عشرين رواية وثلاث عشرة مجموعة قصصية وأربع روايات للأطفال والفتيان، إضافة الى العديد من الدراسات والكتب، منها كتابه عن الرحلة في التراث العربي وكتبه عن محفوظ ومندور وإحسان عبد القدوس.

وقد يكون هذا هو الملمح الثاني الذي تمكن به قنديل من تجاوز صورته الكلاسيكية. الإخلاص للكتابة والدأب وتراكم مسيرته الأدبية، وتطورها ومحاولته تجاوز أعماله السابقة باستمرار، مكنته من تأكيد وجوده في الوسط الأدبي المصري بل والتأثير ايضاً عبر الأعمال الأخيرة. ولعل أحد أهم ما تميزت به أعمال فؤاد قنديل في مجملها هو إخلاصه الشديد لفن القصة القصيرة، التي لم يتوقف عن كتابتها رغم إقباله على الرواية في الفترة الأخيرة من حياته.

أذكر أنه كان يمر عليّ أحياناً في «الأهرام» للتحية أو لكي يهديني نصاً جديداً مــن نصوصه. وحين قرأ لي رواية فوجئت به يمـــر علي ليعبر عن إعجابه وإصراره على أن يذهب بي إلى الإذاعة للتسجيل مع مذيعة يعمل معها للحديث عن العمل، واصطحبني إلى الإذاعة وانتظرني طيلة فترة التسجيل. وهو جانب من شخصيته التي كان يفعل عبرها ما يستطيع لتشجيع الكتاب الشباب عموماً، وجانب آخر من شخصيته النبيلة. فقد تمتع على مدى أربعة عقود بالدماثة واجتناب النمائم والانشغال بعمله وكتابته فقط، من دون الخوض في سيرة الآخرين مهما تعرض للإهمال النقدي أو القرائي.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى