‘فئران أمي حصة’.. زرقاء اليمامة التي لا يصدقها أحد

الجسرة الثقافية الالكترونية
محمد فايز جاد
عد “ساق البامبو”، التي حملت في ثناياها أسئلة “عيسى” أو “هوسيه” أو “خوسيه” حول وضعه في بلد أبيه، وحول هويته التي يرفض وطنه ـ وفقا لأبيه ـ الاعتراف بها، ليتركه “بدون”، ما زال الكاتب الكويتي سعود السنعوسي يطرح أسئلته القاسية والمؤلمة، لكنه في “فئران أمي حصة” لم يكتف بالسؤال فقط، إنما أيضا قدم إجابة وألقى تحذيرًا مرعبًا في وجه الجميع: “الفئران قادمة.. احموا الناس من الطاعون”.
الرواية، التي صدرت عن “منشورات ضفاف”، والتي تقع في 437 صفحة، لا تكتفي فقط بالتحذير من عواقب الفتنة الطائفية التي بدأت ملامحها تظهر منذ عقود في العديد من البلدان العربية، وبالضرورة في الكويت، إنما تقدم تنبؤًا حول النهاية المحتومة التي تنتظر الجميع إن لم يتم التصدي لهذا الخطر المحدق.
يعزز السنعوسي مصداقية هذا التنبؤ عن طريق التقنية التي استخدمها في السرد، والتي تمزج بين الماضي والحاضر والمستقبل بصورة متشابكة، حيث تدور أحداث الرواية في عام 2020، ليستخدم الكاتب تقنية “الفلاش باك” ليعود بالذاكرة إلى فترة التسعينيات مرورا بكل الأحداث التي شهدها الكويت خلال هذه العقود، وليلقي الضوء على كويت 2020 الذي سيتمخض عنه واقع محتقن بالاقتتال الطائفي.
هذا المزج بين الأزمنة لا يجعل تصوير الكاتب للمستقبل مجرد تنبؤ قد يصدق وقد يكذب، بل يضع السنعوسي القارئ في موقف لا يمكن فيه إلا أن يصدق نبوءاته بعد أن جعل هذا المستقبل نتيجة منطقية لمقدمات واضحة للعيان وضعها الآباء في الماضي.
هذا الصراع بين طائفتي السنة والشيعة يقدمه السنعوسي مجسدًا في العلاقة بين الجارين “عباس” المنتمي للطائفة الشيعية، و”صالح” المنتمي للطائفة السنية، وما يدور بينهما من صراع ينعكس على ابنيهما “صادق” و”فهد” اللذين لا يلبثان أن يدخلا المعركة بالوراثة دون أن يكون أحدهما على علم بتفاصيلها.
أسماء الشخصيات في الرواية تحمل دلالة طائفية موضحة إلى أي مدى وصل الاعتزاز بالطائفة والرغبة في التميز عن الآخر، فزوجة “عباس” الشيعي اسمها “زينب”، في حين أن زوجة “صالح” السني اسمها “عائشة”، هذه الدلالة الطائفية للأسماء تحيلنا إلى كون بطل الرواية بلا اسم، الأمر الذي ربما يكون محاولة من الكاتب للإشارة إلى هذا الفرد المسلم الذي لا ينتمي لطائفة، ولا يعد نفسه سنيًا أو شيعيًا، إنما يكتفي بكونه مسلمًا.
من خلال هذا الصراع بين الجارين يوضح السنعوسي كيف يمكن أن يكون الشخص منقسما بين الولاء لطائفته والولاء لوطنه، فخلال الحرب العراقية الإيرانية ينحاز عباس للطرف الإيراني في حين ينحاز صالح للطرف العراقي الذي يقوده صدام حسين، لتنقلب الأمور بعد ذلك وليتحول صدام البطل إلى عدو مجرم، في حين يبقى صالح رافضًا التصديق مرددًا دائمًا أنها “شائعات”.
هذا الصراع يحسمه السنعوسي برسالة تحذيرية قوية حين يتم اعتقال الطرفين “عباس” وصالح” من قبل قوات الاحتلال العراقي آنذاك، ليواجها مصيرا مشتركا لا يفرق بين طائفة وأخرى، ليشدد الكاتب على أن الوطن هو المحور، هو العمود الذي ما إن يسقط تسقط الخيمة على من فيها، هذه الرسالة يقدمها السنعوسي على لسان والدة البطل في نصيحة لولدها بعد الاحتلال: “لا تنس أن البعض ضحى بحياته من أجل وطنه، لا تنس أننا نسينا كل خلافاتنا واختلافاتنا من أجل بلادنا، لاتنس أنك لا تساوي شيئًا من دون وطنك”.
ولكي يزيد السنعوسي الأمر تشابكا وتعقيدا ينتج عن زواج فهد ابن صالح، وحوراء ابنة عباس، توأمان يكونان محل صراع بين العائلتين، حول تسميتهما وحول إقامتهما، هذان التوأمان يوظفهما السنعوسي في إشارة واضحة لمستقبل مشترك لا مفر منه، مستقبل ينتجه الطرفان ويشترك فيه الطرفان، فإما أن يحافظا عليه وإما “على الدنيا السلام”.
النهاية التي قد تبدو متشائمة، جعلها السنعوسي منطقية للغاية، عن طريق هذا الترابط القوي بين الماضي والمستقبل، هذا الترابط الذي يجعل تلك النهاية المأساوية نتيجة منطقية لمقدمات زرعها الآباء، وحصدها الأبناء، فحتى “أولاد فؤادة” الذين ملأوا الدنيا صراخا يحذرون الناس من الطاعون، قد أصابهم الطاعون، وطالهم إرث الآباء الملعون، ليظل السنعوسي ومن يسيرون على دربه “زرقاء يمامة” تبعث كل يوم وتملأ الدنيا صريخًا وضجيجًا محذرة “احموا الناس من الطاعون”، وما من مجيب.
سعود السنعوسي روائي كويتي صدر له من قبل: “سجين المرايا”، و”ساق البامبو” التي فازت بالجائزة العالمية للرواية العربية بوكر عام 2013.
المصدر: ميدل ايست اون لاين