فاطمة إسماعيل ترى أن امتلاك المنهج مقدم على المذهب

الجسرة الثقافية الالكترونية
*محمد الحمامصي
يعالج هذا الكتاب “مقال عن: المنهج الفلسفي عند ابن رشد” للدكتورة فاطمة إسماعيل والصادر عن الهيئة العامة لقصور الثقافة موضوعا من أهم موضوعات الفكر الفلسفي، أولا وهو موضوع منهج البحث الفلسفي، تحديدا عند أبرز فلاسفة العرب والمسلمين، وهو الفيلسوف ابن رشد الذي هو بحق فيلسوف الشرق والغرب.
ويتناول الكتاب مراحل الوعي الفلسفي التي مر بها ابن رشد حتى يبلغ قمة النضج الفلسفي. والكتاب أحد الاجتهادات المعاصرة لقرءاة الترايث ممثلة في ابن رشد، حيث تطرح الباحثة سؤالها المحوري: هل على الفلسفة أن تتبنى المناهج العلمية؟ أم عليها أن تتخلى عن هذه المناهج وتتبع طرقا أخرى تتلاءم مع موضوعاتها الخاصة وتحديدا في مجال الإلهيات؟
ومن هذا السؤال تأتي أسئلة فلسفة ايبن رشد: هل دعا ابن رشد إلى منهج واحد عام يضم العلوم كلها بما فيها الميتافيزيقا؟ هل المنهج الذي دعا إليه ابن رشد هو ذاته المنهج الذي استخدمه في ممارساته المنهجية أم لا؟ هل مرت نظرية المنهج عنده بمراحل تطور تغيرت فيها بعض ملامحها أم ظلت ثابتة؟ هل هناك عوامل خارجية أثرت على البناء الداخلي للنظرية المنطقية كتلك العوامل الأيديولوجية العقدية أم أن العمليات العقلية الاستدلالية لم تتأثر بتلك الجوانب؟
وتؤكد الباحثة وهي أستاذة الفلسفة الإسلامية بكلية البنات جامعة عين شمس – من مؤلفاتها “القرآن والنظر العقلي”، “منهج البحث عند الكندي”، و”كولنجوود: مقال عن المنهج الفلسفي” – أن مراحل تطور الوعي الفلسفي عند ابن رشد تواكب كل مرحلة منها درجة من درجات اسهامه الفعلي في التنوير العربي، وتقسم المراحل إلى أربعة:
الأولى؛ مرحلة تأسيس الوعي ونشأته وتمثلها المختصرات الأولى لبعض كتب السابقين عليه، وذلك في مجالات مختلفة.
والثانية؛ مرحلة تطور الوعي الفلسفي في إعادة قراءة وشرح التراث الأرسطي وتنقسم هذه المرحلة إلى: الجوامع “الشروح الصغرى”، والتلخيصات “الشروح الوسطى”.
والثالثة؛ مرحلة نقد وإعادة قراءة وشرح التراث الإسلامي وتمثله في المؤلفات الأصيلة “فصل المقال، مناهج الأدلة، تهافت التهافت”.
الرابعة؛ مرحلة اكتمال الوعي الفلسفي وبلوغه قمة النضج الرشدي في العلم والفلسفة وهي مرحلة الشروح الكبرى والمقالات الاسيتدراكية التي تحمل تأويلات جديدة لمواقف قديمة.
وتتداخل هذه المراحل فيما بينها غير أن الموقف المنهجي سيكون هو الحاسم الذي سيشطرها قسمين.
وترى الباحثة أن “التفكير المنهجي عند ابن رشد انقسم إلى مرحلتين متميزتين ومتعارضيتين في الوقت نفسه، هما مرحلة الدعوة إلى البرهان في العلوم والفلسفة ومرحلة تلازم الجدل والبرهان، واستخدم المنهج “الإشكالي الدلالي”، لذلك خضعت أعمال ابن رشد للتطور، وبعض الأعمال شكلت قطيعة مع الأعمال السابقة عليها.
وهذا ظهر بوضوح في الناحية المنهجية، حين تحول ابن رشد من النظر إلى الفلسفة إلى النظر الفلسفي من حيث المنهج، حتى أصبح المنهج الفلسفي ذا طابع إشكالي ـ دلالي يقترن فيه الجدل بالبرهان، التحليل بالتركيب، الهدم بالبناء، غير أن مفارقة ابن رشد أنه في الوقت الذي لا يمل فيه الدعوة إلى استخدام النظر البرهاني، كان يمارس المنهج الإشكالي الدلالي الذي يقوم على إحصاء الشكوك وحلها بالتفتيت اللغوي، وهذا ما يظهر بوضوح في جميع كتبه بلا استثناء”.
وتثبت الباحثة أن الممارسات المنهجية لابن رشد في مرحلة الدعوة إلى البرهان لم تكن برهانية، فالمقدمات التي استخدمها ابن رشد في ممارساته المنهجية لم تكن كلها مقدمات برهانية خالصة “كالبديهيات أو الأصول المتعارف عليها، أو المصادرات”، بل بعضها كان يرجع إلى الحس، بعضها إلى الخبر المتوتر.. إلخ، والنتيجة المترتبة على ذلك هي الاستغناء عن المقالة الأولى من كتاب “التحليلات الثانية” لأرسطو، وهي التي تبحث في مباديء البرهان، والمقالة الثانية التي تبحث في الحدود والعلة، فلم تعد الحاجة إليها مرتبطة بالبرهان بالمعنى الأرسطي، بل سيصبح بعض ما فيها جزءا من مبحث التصور الذي موضوعه دلالة الألفاظ أكثر من ارتباطه بماهية الشيء، وإذا أضفنا إلى ذلك أن المفاهيم المستخدمة في نسق المقولات “الذي يرتبط بالموجودات” لا تنطبق على عالم الألوهية، لأنه عالم خاص لمقولات المنطق ولا يخضع لكم أو كيف أو مكان أو زمان… إلخ، ولا يخضع لقياس الغائب على الشاهد، إذن نحن أمام منطق لا يستطيع ارتياد عالم الألوهية. وهذا إن دل على شيء فهو يدل على الفجوة بين المنطق الصوري وبين الواقع الحقيقي، ويدل في الوقت نفسه على أن وضع النظرية المنطقية أيسر من تطبيقها، خاصة في مجال الإلهيات، ويثبت من جهة ثالثة أن الغزالي كان محقا في نقده للفلاسفة من هذه الناحية المنهجية.
أيضا من ضمن ما توصل إليه البحث “إن أي حديث عن المنهج لا ينفصل عن المذهب، والعكس صحيح، غير أن أي حديث عن منهج ابن رشد لا يمكن عزله عن المنطق الصوري الأرسطي، حتى تبين أننا ينبغي أن نميز بين المنطق، وبين التفكير النقدي، وهو تطبيق المنطق في مجالات أخرى، وابن رشد في شروحه لكتب أرسطو المنطقية كان مهتما بالمنطق الصوري، وعندما درس آراء المتكلمين والفلاسفة المسلمين في الإلهيات، بدأ تطبيق المنطق الأرسطي على موضوعاتهم، أي أنه استخدم التفكير النقدي والحديث هنا يختلف عن هناك، حتى يمكن القول إنه لا مجال للمقارنة بين ما يقال في مجال المنطق الخالص، وبين ما يقال في تطبيقه على المجالات الأخرى وبخاصة الإلهيات، ويترتب على ذلك أن المقصود بالبرهان ليس هو المعنى المنطقي الصرف، بل يعني التحليل والتركيب”.
وتقول الباحثة “عندما أراد ابن رشد خدمة الفكر العربي في عصره، اختار أكثر المذاهب اقناعا وأثبتها حجة، وهو مذهب أرسطو أو بالأحرى منهجه (= منطقه) وهذا إن دل على شيء فإنه يدل على وعيه بأهمية المنهج، وتأكيدا منه على أن إبداع الفلسفة ممكن في المستقبل، لا يتحقق إلا بمنهج يتمتع بحجة قوية، وأي حل لمشكلات العصر لا يتم إلا باستخدم منهج قادر على مواجهة هذه المشكلات والشكوك.
وعليه فإن امتلاك المنهج مقدم على المذهب أي على فعل الفلسفة ذاته، هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإن الفكر الوافد لا قيمة له إلا إذا كان منهجا يصلح لحل الشكوك والمشكلات التي يفرضها العصر في البيئة التي وفد إليها”.
المصدر: ميدل ايست اون لاين