فالنتين راسبوتين.. راوي سيبيريا والذاكرة القروية

الجسرة الثقافية الالكترونية

*اسكندر حبش

المصدر: السفير

 

لم يمهله القدر ليكمل عامه السابع والسبعين، إذ كان بحاجة إلى يوم واحد بعد كي يتخطّى ذلك. فالنتين راسبوتين (15 آذار 1937 – 14 آذار 2015) واحد من كبار الأدب الروسي الحديث، يغادر، ويترك وراءه عدداً من أجمل الروايات الحديثة التي عالجت عوالم القرية في روسيا، من خلال مصائر شخصياتها التي كانت تتقاطع مع الحياة العامة، رغم خاصيتها الشديدة، في قالب نثري مدهش، دفعه لأن يتبوأ مقدمة الكتّاب لا على الساحة الروسية فقط بل في العالم أيضاً.

روائي، اكتشفناه من خلال الترجمات العربية العديدة لكتبه مثل «الهارب» و «وداع ماتيورا» و «الحريق» و «نقود من أجل ماريا» وغيرها من تلك «الملاحم الحديثة» التي تبدو سهوب سيبيريا وقراها حاضرة في نسيجها كما غابات التايغا التي تلقي بكل مهابتها في النص وفي الذاكرة.

ولد راسبوتين (واسمه الكامل فالنتين غريغوريفيتش راسبوتين) في سيبيريا، وهو حفيد صياد لم يتورع مرة عن الدخول إلى التايغا، ليأتي من هناك «بأعاجيب لم نكن نعرفها من قبل»، صورة هذا الصياد كانت حاضرة في أكثر من كتاب له، كما حضرت الحكايات الشعبية العائدة لمسقط رأسه التي روتها له جدته حين كان صغيراً. من هنا، كان يقول دائماً إن كل كتاباته ليست في الواقع، سوى هذه الاستمرارية للحكايات الشعبية المتوارثة إذ حاول أن يحييها من جديد عبر هذا «المذاق الذي لا يمكن محوه لكل ما هو خــاص بمنطقة سيبيريا». بيد أن الكاتب، لم يتوقف عند الحكاية المرويّة بالطبع، بل حوّلها إلى أدب كبير ذي رهافة عالية.

يتلخّص مشروع راسبوتين الكتابي، بفكرة كبيرة: إعادة الوعي إلى الحياة الراهنة، أي كان يقف على تضادٍ كبير مع كثير من معاصريه الذين وصفهم بأنهم كتّاب من دون وعي ومن دون ذاكرة وبأنهم «يمرّون من هذا الوعي الأسطوري – المتكامل إلى موقف منزوعة عنه الأسطورة بشكل كامل». لذلك وجد أن عليه محاربة هذه «الآفة التي تصيب عالمنا المعاصر». هذا ما نجده في «نقود من أجل ماريا» (1967) التي يصوّر فيها انحدار القيم القروية والطائفــية باتجاه الفردانية (إذ لا أحد يعطي المال اللازم لكوزوما كي ينقد زوجته). في «المهلة الأخيرة» (1970) يصوّر اللحظات الأخيرة من الحياة القروية الآيلة للاندثار عبر شخصية آنا، تلك المرأة البسيطة، بينما يوجّه في «دروسي الفرنسية» (1973) تحية أخيرة إلى طيبة هؤلاء البسطاء، في حين يروي في كتاب «عش وتذكّر» (1974) سيرة امرأة لم يعد باستطاعتها العيش بسبب خطأ ارتكبه زوجها ـ هرب من الخدمة العسكرية الإلزامية ـ ليطردهما مجتمع القرية إلى بئس المصير.

في العام 1976 أصدر راسبوتين رواية «وداع ماتيورا»، التي حوت الكثير من الرموز ما جعلها تثير الكثير من النقاشات (ولعلها أشهر رواياته)، إذ يتحدث فيها عن قرية (يسميها ماتيورا) تغرق تحت المياه بسبب «التقدم»، من أجل إقامة سدّ. كل الكتابة فيها تشير إلى نهاية هذا العالم البطريركي والدخول إلى عالم جديد فاقد كلّ علاقة بالذاكرة، بمعنى آخر نحن أمام عالم يقطع بشكل نهائي مع ماضيه. هذه القطيعة هي أيضاً في قلب رواية «الحريق» (1985).

وبعيداً عن رواياته، لعب راسبوتين دوراً كبيراً في قلب مجتمعه، وبخاصة بعد مرحلة «الغلاسنوست» أي بعد مرحلة «الركود البريجينيفي» إذ أراد أن يكون ذلك الكاتب الواعظ الذي يحــذر الشعب كي يستعيد وعيه المؤسس على تاريخــه وتقاليده. من هنا، قيامه مع كتّاب آخرين في إعلان «حرب» على الكتّاب «الليبيراليين» الذي رغبوا في تحويل روسيا عن قيمها إلى نمط الحياة الغربية وإلى ثقافة الحشد وفق النمط الأميركي.

راسبوتين راوي السهوب السيبيرية، لكنه أيضاً راوي الوعي والتمسك بالقيم في عصر يفقد كل نقاط استدلالاته.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى