فرانسوا تروفو… الرجل الذي أحبّ السينما: احتفاء فرنسي بالمخرج في ذكراه الثلاثين

الجسرة الثقافية الالكترونية
*سليم البيك
المصدر / القدس العربي
في أكتوبر/تشرين الأول من العام الماضي مرّت الذكرى الثلاثون لرحيل المخرج السينمائي الفرنسي فرانسوا تروفو (1932 1984)، وفي السادس من هذا الشهر ستحلّ ذكرى ميلاده، وبين التاريخين تم الاحتفاء فرنسياً بأحد مؤسسي «الموجة الجديدة» في السينما الفرنسية ضمن عروض وندوات ومعارض نظّمتها «السينماتيك الفرنسية» في باريس ومدن أخرى، إضافة لأعداد «خارج السلسلة» وملفات خاصة في مجلات كـ «لو بوان» و «لو مودن» و «لو ماغازين ليتراير» و «تيليراما»، وبرامج تلفزيونية، كان أهمّها الوثائقي الذي عرضته مؤخراً قناة «آرتي» وهو «فرانسوا تروفو.. سيرة ذاتية».
لم يُعرف تروفو أساساً كمخرج أفلام، بل كناقد سينمائي، حيث قدِم إلى الإخراج من النقد، ولم يكن ناقداً عادياً، بل كان يُعرف بـ «حفّار قبور» للأفلام الرسميّة الفرنسية (سينما ما بعد الحرب) وغير الفرنسية، داعياً من خلال نقده القاسي الذي كان يكتبه في مجلة «دفاتر السينما» إلى سينما حرّة، طارحاً نظريّته في هذه المجلة، التي بدأ فيها كناقد ثم صار محرّراً منتقلاً منها إلى إخراج أفلامه الخاصة، طارحاً «نظرية المؤلّف» ومقدّمها للعالم، كتابة وإخراجاً، مع روّاد آخرين أهمّهم، جان لوك غودار المخرج الفرنسي المعروف، وآندريه بازان مؤسّس المجلّة المذكورة التي ما تزال تصدر حتى اليوم، وكلود شابرول وإيريك رومير وأسماء قليلة أخرى.
ضمن «الموجة الجديدة» التي أتت معظم أسماء المخرجين فيها من النقد، قُدّمت سينما فرنسية جديدة تعتمد على المخرج/المؤلّف، في ذلك أشار تروفو إلى أن «نظرية المؤلف» تقوم على المُخرج كصانع للفيلم، أنّه هو القوة الخلّاقة له، لا الكاتب ولا المنتج».
واعتمدت «الموجة الجديدة» ميزانيات بسيطة فكان الشارع موقع التصوير، من دون الحاجة لفبركة استديو خاص، كانت الكاميرا تُحمل باليد من دون أن تُثبّت، وكانت المقاربات السينمائية تجريبيّة في معظمها وتسعى لهدم البناء التقليدي للسينما الفرنسية، كما تظهر بوضوح في أعمال جان لوك غودار، في حين أن تروفو حرص على السيْر الروائي لأفلامه، فكانت جميعها حكاية وشخوصا، ربّما لأن العديد من أفلامه، وهي أفضلها، كانت سيراً ذاتيّة متكاملة لعدّة مراحل حياتية، من طفولته القاسية إلى علاقاته المتتالية مع النساء.
ولأنّ ما لم يكن من أفلامه سيرة ذاتية، كان في الغالب نقلاً للأدب إلى السينما، يُظهر الفيلم الذي عرضته «آرتي» روايات قرأها وحوّلها لأفلام، نشاهد شطبه لصفحات وتأطيره لفقرات وإرفاق ملاحظاته على هوامشها، كمادة أوّلية لصناعة فيلمه. قال مرّة إنّه لم يحب أن ينقل أعمالاً معروفة، كـ«الغريب» لألبير كامو، فيستفيد من شهرتها، لذلك اختار روايات غير منتشرة لينقلها إلى السينما. حبّه للأدب والكتب على كل حال واضح تماماً في أفلامه، هنالك دائماً مكتبات وكتب مبعثرة، الشخصيّات عنده تقرأ كثيراً، عدا عن كون بعضها كتّابا. لذلك ربّما لم تخل أفلامه من الثقافة والجمالية، ما يجعلها أعمالاً سينمائية بالمعنى الفنّي، بدا ذلك ظاهراً على الصورة فيها كما، وبشكل ملحوظ، على السيناريو الأقرب، بحد ذاته، لعمل أدبي.
لتروفو العديد من الأفلام، وقد رحل تاركاً عدّة مشاريع على ورق، لكن ما أنجزه من أفلام لا تخلو أي لائحة جادّة لأهم الأفلام على مستوى العالم من أحدها أو بعضها، قد تكون أهمّ أعماله الخماسيّة التي كانت بمثابة سيرة ذاتية، وهي أفلام منفصلة عن بعضها بقدر ما هي مكمّلة لبعضها في سيرة حياة أنطوان دوانيل، الأنا الآخر لفرانسوا تروفو، وهو، أنطوان أو الممثل جان بيير ليو، له هيئة المخرج تروفو، ما أوحى بأن تروفو نفسه قد أدّى دور أنطوان في أفلامه، خاصة أنّه مثّل في أفلام لاحقة. الأفلام الخمسة المعروفة بـ «حلقة أنطوان دوانيل» هي «الضربات الأربعمئة، أنطوان وكوليت، قبلات مسروقة، بيت الزوجيّة، الحب الهارب». له أيضاً أفلام كـ «الجلد الناعم» و «أخيراً.. الأحد» وهو فيلمه الأخير وكان تحيّة منه لمخرجه المفضّل ألفرد هيتشكوك الذي أنجز تروفو معه حواراً طويلاً نشره في كتاب مرجعيّ طرح أفكار المخرجيْن معاً، وله «جول وجيم» الذي يحكي فيه عن علاقة حب بين رجليْن صديقيْن وامرأة، و «الإنكليزيتان والقارّة» الذي يحكي فيه عن علاقة حب بين رجل وامرأتيْن شقيقتيْن، والفيلمان الأخيران مأخوذان عن روايتيْن للفرنسي آنري بيير روشيه.
تروفو الناقد الذي طالما تجنّب مهرجان كانّ السينمائي دعوته بسبب نقده الحاد، دُعي كمخرج عن فيلمه الأوّل «الضربات الأربعمئة» عام 1959 ونال عنه جائزة أفضل مخرج، ويَفتتح الفيلم العمل السِّيَري لتروفو بتصوير حياة الطفل أنطوان/فرانسوا البائسة في البيت والمدرسة.
وُلد فرانسوا تروفو في السادس من شباط/فبراير عام 1932 في باريس، أمضى طفولة قاسية مع أمّه، من دون أن يعرف هويّة أبيه البيولوجي، فاتّخذ اسم العائلة من زوج أمّه التي أهملته منذ ولادته إلى أن أُرسل طفلاً ليعيش مع جدّيْه. يكبر قليلاً ويصبح مداوماً على دور السينما، يترك المدرسة ويبدأ بالبحث عن عمل متعثّراً بقساوة الحياة، من السرقة إلى الحبس، ولاحقاً الخدمة العسكرية. كبر قليلاً وتحوّل شغفه بالسينما إلى العمل بها بعدما منحه صديقه برازان مكاناً للكتابة في مجلّة «دفاتر السينما»، فصار ناقداً، ثمّ ترك النقد ليتفرّغ لصناعة الأفلام متأثّراً بجان رينوار وروبيرتو روسيليني وألفرد هيتشكوك، وذلك إلى أن رحل عن 52 عاماً بسبب ورم في الدماغ، في 21 أكتوبر عام 1984.
في أفلامه التي نالت جوائز أوسكار وسيزار وكانّ وغيرها، احتفى تروفو بالكتب، في «فهرنهايت 451» بشكل أساسي، كما احتفى بالنساء وسيقانهنّ كما في «الرجل الذي أحب النساء» و «بيت الزوجيّة» و «الجلد الناعم» و «حوريّة المسيسيبي» و «المترو الأخير»، واحتفى بكتابة الرسائل، ما مارسته شخصيّاته مراراً كما في «الغرفة الخضراء» و «الطفل الوحشي» و «قصة آديل آش» و «الإنكليزيتان والقارّة» و «قبلات مسروقة» و «الحب الهارب» و «جول وجيم».
هنا، عند تروفو، نحكي عن السينما بمعناها الجماليّ الفنّي، وهذا يحيل إلى رهافة ونقاوة في اللقطة والسيناريو والموسيقى في الفيلم، واضحة تماماً عند تروفو. هنا تصبح السينما ثقافة وذوقاً.