«فرانكشتاين» جثة تنتقم للضحايا في بغداد

الجسرة الالكترونية الثقافية-الحياة اللندنية-

«لقد اختفَت الجثّة. الجثّة المتفسّخة التي أكملها نهار البارحة. لا يمكنها أن تتلاشى هكذا أو تطير في العاصفة. قلّبَ الأغراض كلّها، ثمّ شكّ في نفسه، فدخل إلى غرفته وبحث فيها، أعاد البحث من جديد وضربات قلبه تزداد سرعة وتجاهل الآلام التي تصلّ في عظامه. دخل في مرحلة الرعب، فأين ترى ذهبت هذه الجثّة». يبدأ الكاتب العراقي أحمد سعداوي روايته «فرانكشتاين في بغداد» التي فازت بجائزة البوكر العربية (منشورات الجمل، 2013) بانفجار يهزّ بغداد ويبثّ الرعب في قلوب الشخصيّات كلّها ويكون بمثابة المحرّك الأوّل لرواية تنقل الواقع العراقي المرعب بتفجيراته الهمجيّة الكثيرة العبثيّة، ويُنهي سعداوي روايته بانفجار آخر، يكون هذه المرّة في وسط حي البتاويين، مسرح أحداث الرواية، ومكان سكن معظم شخصيّاتها. وبين التفجير الأوّل والتفجير الأخير، مجموعة تفجيرات سيّارة، سلسلة أحداث مترابطة محكمة السبك، شديدة الرعب، وجثّة جمّعها رجل عجوز وخاطها، وعندما انتهى من عمله استيقظ ليجدها قد اختفَت. فأين اختفت الجثّة؟ أين اختفى فرانكشتاين؟ إنّه في بغداد… ولعل الملاحظة التي لا بد من إبدائها أنّ الكاتب يستخدم اسم فرانكشتاين وليس فرانكنشتاين، مع انه يستهل روايته بجملة يختارها من رواية «فرانكنشتاين» للكاتبة البريطانية الشهيرة ماري شيللي، ولم يوضح لماذا حذف حرف النون من الاسم.

 

مؤلّف حاضن وشخصيّات متزعزعة

في رواية «فرانكشتاين في بغداد»، يعرف المؤلّف كلّ الأحداث، ينقل أفكار أبطاله ومشاعرهم بدقّة ورزانة، يدّعي أنّه أخذ معلوماته من الشخصيات نفسها لنجده يؤطّر النصّ متحدّثًا في أوّله وفي آخره، مسمّياً نفسه المؤلّف، ومحدّداً مصادر معلوماته، ومحوّلاً روايته إلى وثيقة تاريخيّة تنقل مرحلة سوداء مشؤومة من تاريخ العراق تبدأ بعد دخول الأميركيين حتّى 21 شباط (فبراير) 2006.

و «فرانكشتاين في بغداد» لا تستعير من أسطورة فرانكشتاين العالميّة التي ظهرَت في الأدب العالمي منذ عصور، مثلاً مع ماري شيللي «فرانكنشتاين» (1818)، وفي السينما العالميّة أخيراً في فيلم «أنا، فرانكنشتاين» (ستيوارت بيتي، 2014)، لا تستعير هذه الرواية من الإرث العالمي سوى طبيعة فرانكنشتاين وهي أنّه جثّة مؤلّفة من مجموعة أعضاء مقطّعة ومخيطَة بعضها إلى بعض، لتؤلّف جثّة متكاملة تدخلها الحياة وتصبح أقوى من الانسان العادي ومتمتّعة بميزات مختلفة أبرزها الخلود: «فالشِسمه (فرانكشتاين) مصنوع من بقايا أجساد لضحايا، مُضافاً إليها روح ضحيّة، وإسم ضحيّة أخرى. إنه خلاصة ضحايا يطلبون الثأر لموتهم حتى يرتاحوا». (ص 144)

وحنكة التأليف في هذه الرواية، تبدأ من خلال أسماء أبطالها، فنجد المؤلّف يضع الأسماء وفق صفات شخصيّاتها. فالشِسمه وهي الجثّة التي دبّت فيها الحياة، هي فرانكشتاين، وهي تعني باللهجة العراقيّة المحكيّة «الذي لا أعرف اسمه»، أو «الذي لا اسم له»، وكذلك سمّته المرأة العجوز التي كانت أوّل من رآه، سمّته دانيال على اسم ابنها المفقود والميت على الأرجح، ودانيال هو نبي الله في الأديان السماويّة الثلاثة واسمه يعني «قضاء الله» أو «حكم الله»، وهو تماماً ما يزعم الشِسمه القيام به، يدّعي أنّه آتٍ لتحقيق العدل والثأر للمظلومين. وكذلك نجد هادي العتّاك، وهو الرجل العجوز الفقير الذي يجمع أعضاء الجثّة ويخلقها بلا قصدٍ. فهادي يعمل «عتّاكاً»، أي رجلاً يشتري الأنتيكا أو الأشياء العتيقة من الناس ويعود ليبيعها: «يشتري الأغراض المهملة ليعيد ترميمها وبيعها من جديد». وهذا العتّاك الذي يجيد تصليح الأشياء العتيقة، يستطيع إعادة الحياة إلى مجموعة أشلاء بشريّة من دون أن يدري. وكأنّ وظيفته في شراء ما يبلى من الأشياء وما يرميه الناس من الأثاث لإعادته إلى الحياة، منحه القدرة على إعطاء الحياة لجثّة جمعها وخاطها بنفسه. ويُلاحَظ كذلك أنّ المؤلّف منح الشخصيّات الثريّة في الرواية وذات النفوذ، أسماءَ تدلّ على الفرح والبسط، فنجد مثلاً الرجل الثري الوحيد في حيّ البتاــويين اسمه «الفرج»، وعميد دائرة المتابعة والتعقيب وهو أكثر رجال الرواية سلطة ونفوذاً اسمه «ســرور»، ورئيس تحرير مجلّة «الحقيقة» التي تنقل أخبار الشِسمه اسمه «السعيدي». فتفاصيل السرد والشخصيّات دقيقة، مترابطة في شكل منطقي.

يتساءل القارئ عن بطل الرواية: هل هو الشِسمه الروح التائهة، الرجل المخيف العائد من عالم الأموات والذي يدور في أحياء بغداد ليقتصّ من المجرمين؟ هل هو هادي العتّاك الذي تُنقَل مجريات حياته بدقّة تثير الشفقة في نفس القارئ وبخاصّة مع النهاية الأليمة التي ينتهي إليها؟ هل هو الصحافي الشاب الطموح محمود السوادي الذي يرافقه القارئ منذ هربه من ميسان إلى بغداد ثمّ في هربه الثاني من بغداد إلى ميسان؟ هل هي العجوز المسكينة ايليشوا التي تعيش بانتظار عودة ابنها دانيال، والتي تتمسّك ببيتها ومدينتها وأيّامها القليلة الباقية من أجله؟ من هو البطل؟ أتراها بغداد المتألّمة التي تشهد سلسلة الانفجارات بين أزقّتها وضلوعها كمن يتفرّج على فيلم رعب لا ينفكّ يتكرّر إلى ما لا نهاية؟ «كانت الأوضاع العامة تتجه إلى تدهور أكثر. الصراعات على شاشات التلفزيون بين السياسيين تقابلها حرب فعلية في الشارع أدواتها المفخخات والاغتيالات والعبوات الناسفة واختطاف السيارات بركابها، وتحوّل الليل إلى غابة مجرمين». (ص 199)

 

بين العدالة والإجرام

يتوخّى الشِسمه في البداية غايةً نبيلة. فهذا العائد من الأموات يحرص على قتل المجرمين وإنقاذ مدينته منهم، يحرص على قتل رؤوس الميليشيات والذين يغرقون بغداد بالسلاح، يحرص على اختيار الذين آذوا أصحاب أعضاء جسده وقتلوهم بالتفجيرات ليقتصّ منهم ويثأر لجسده. ولكنّه مع تطوّر الأمور يكتشف أنّه كلّما قتل مجرماً وأوفى حقّ عضو الضحيّة التي فيه، ذاب العضو ووقع. أي أنّه اكتشف أنّه كلّما أقام العدل خسر شيئاً من جسده واتّجه نحو العجز فالموت. فراح كلّما خسر يداً أو عيناً، يستبدل ما فقده بعضو آخر من جثّة أخرى، ما حوّل عمليّة الثأر والقتل عمليّة أبديّة لا تنتهي إلاّ بموت الجميع: الضحايا والمجرمين. «ما زالت اللائحة في ذهنه طويلة، هذه التي تحوي أسماء من يفترض أن يقتلهم، وكلما تقلصت عادت لتمتلئ بأسماء جديدة، وربما تضاعفت من دون أن يدري، الأمر الذي جعل مهمة الانتقام والثأر مهمة أبدية».

ثمّ تعقّدت المسألة أكثر مع طرح سؤال أخلاقيّ جوهريّ تدور حوله الرواية: مَن يقرّر مَن المجرم ومَن الضحيّة؟ إلى أيّ مدى المجرم هو مجرم بحت والضحيّة هي ضحيّة فقط؟ أليس المجرم هو ضحيّة ظروفه، والضحيّة هي التي لم يتسنَّ لها أن تكون مجرماً؟ «ليس هناك أبرياء أنقياء بشكل كامل، ولا مجرمون كاملون. […] فكلّ مجرم قتله كان ضحية بنسبة ما، ولربما كان منسوب الضحية فيه أعلى من المجرم». (ص 255) لقد وقع الشِسمه في الفخّ، وتحوّل من كائن ينشد العدالة إلى قاتل مخيف، يقتل ليتمكّن من البقاء. فكلّ انسان مجرم وضحية في الوقت نفسه، وعلى غرار الحكمة اليابانيّة: الأبيض فيه أسود والأسود فيه أبيض، فمَن يحدّد الفئة التي ينتمي إليها الانسان؟ مَن يحدّد متى يجوز العقاب؟ مَن يجيد التمييز بين الضحيّة والمجرم؟ هل من مجرم وضحيّة وحائط عالٍ يفصل بينهما؟

«فرانكشتاين في بغداد»، رواية أحمد سعداوي الثالثة، رواية تستحق الفوز بجائزة بوكر للعام 2014، تستحقّها للغتها الجميلة، لصورها المنسدلة المنسابة، لبنيتها المسبوكة بمتانة في حوالى الثلاثمئة وخمسين صفحة، لموضوعها الفانتاستيكي الذكي والقادر على الإمساك بقارئه وهزّ أعماقه وإشراكه في الأحداث.

الموت، الحياة، العدالة، الإجرام، الفقر، الطموح، الأمومة، الانتظار، الأمل، الأزقّة، الصحافة، الاستخبارات، الحب، الجنس، الضمير، التروّي، الخداع، الكذب… موضوعات كثيرة، عميقة، شيّقة، ترمي القارئ في أزقّة بغداد وبين ناسها ليسير متخوّفاً من انفجاراتها الرهيبة ومن طيف الروح التائهة التي لا اسم لها.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى