«فرانكنشتاين» الخارق يلعب دور الخير… ويخسر

الجسرة الثقافية الالكترونية
*كاتيا الطويل
المصدر: الحياة
كان شتاءً طويلاً شتاء ذلك العام. شتاءٌ بلا شمس ولا دفء، شتاءُ العام 1816، العام الذي كتبَت فيه ماري شِلي رائعتها «فرانكنشتاين»، هي المولودة في عائلة مثقّفين ومفكّرين. كان شتاءً مناسباً لتأليف قصّة رعب خالدة يتناقلها المثقّفون من عصر إلى آخر ولا يكفّون عن إعادة توظيفها في السينما والمسرح والكاريكاتور والأدب حتّى يومنا هذا، بعد مئتيّ عام من تاريخ تأليفها الأوّل.
كان العام 1816 العام الذي سمّاه التاريخ «عامٌ بلا صيف»، العام الذي ولدت فيه أسطورة «فرانكنشتاين» لمؤلفته البريطانية ماري شِلي، والتي نقلها المترجم هشام فهمي أخيراً إلى العربية (دار التنوير، 2015).
وقد عرف كل من الأدب والسينما قصّة شِلي وسُلّط عليها الضوء واستغرب المجتمع الثقافيّ موهبة فتاة في الثامنة عشرة من عمرها قادرة على خلق قصّة على هذا الكمّ من الإبداع والعمق والرمزيّة. وبدأ الكتّاب والمخرجون والسينمائيّون يتهافتون على نصّ شِلي الذي تمّ تحويله إلى فيلم صامت ثلاث مرّات بعد مرور أقلّ من قرن على كتابته. ومنذ العام 1931 أخذت الرواية تشهد أفلاماً مستوحاة منها، أفلامٌ حافظَت على العنوان والجوهر وغيّرت في شيء من التفاصيل وزوايا السرد بحسب رؤية كلّ مخرج. فشهد القرنان العشرون والواحد والعشرون أفلاماً ومسلسلات انبثقت مباشرةً عن الرواية مثل «عروس فرانكنشتاين» (1935)، و»ابن فرانكنشتاين» (1939)، و»طيف فرانكنشتاين» (1942)، و»لعنة فرانكنشتاين» (1957)، و»فرانكنشتاين: القصّة الحقيقيّة» (1973)، و»فرانكنشتاين» (1992، 1994، 2004، 2007)، وأخّيراً «أنا فرانكنشتاين» (2014). كما سيُعرض فيلم «فيكتور فرانكنشتاين» في الصالات هذا العام ابتداءً من تشرين الأول (أكتوبر) 2015 بإخراج بول ماك غيغان وتمثيل جايمس ماك أفوي، ودانييل رادكليف. أظهرت هذه الأفلام والمسلسلات قصّة فرانكنشتاين الأساسيّة تارةً بوضوح، وطوراً بطريقة غير مباشرة وضمن جوّ مختلف، من الخيال العلميّ أحيانًا، كما هي حال فيلم ستيوارت بيتي «أنا فرانكنشتاين».
ولا بدّ من التوقّف قليلاً عند رائعة الكاتب والروائيّ العراقيّ أحمد سعداويّ «فرانكشتاين في بغداد» (فرانكشتاين بلا نون)، رواية ممعنة في الذكاء والحنكة والاحتراف منحَت صاحبها جائزة بوكر العربية العام 2014. وقد تمكّن سعداويّ من إعادة توظيف قصّة المخلوق البشع والمخيف في إطار حرب العراق والفوضى التي سادت فيها في فترة كتابة الرواية، وبدلاً من أن يكون الشاب الطموح فيكتور فرانكنشتاين هو الصانع، أصبح هادي العتّاك (الذي يبيع أشياء عتيقة) هو الصانع الذي يخرج مخلوقه عن سيطرته ويقتله. واستطاع الكاتب أن يستثمر القصّة الأساسيّة مع إضافة عناصر عليها أطّرتها ومنحتها بريقاً روائيّاً متوهّجاً كمثل أنّ جسم المخلوق مصنوع من عدّة جثث قُتلت، ولا بدّ للمخلوق من أن ينتقم لها ويقتل مَن قتلها. وكلّما انتُقِم لعضو من الأعضاء سقط واضطرّ المخلوق إلى قتل شخص جديد لأخذ العضو الناقص منه، وهكذا دواليك: لعبة انتقام وقتل، دوّامة دمويّة لا تنتهي. واحترمَ سعداوي رغبة ماري شِلي في عدم تسمية مخلوقها الفرانكنشتاينيّ فهي كانت تسمّيه على مدار السرد «الوحش» و»المخلوق» وغيرهما من الأسماء التي تسلبه أيّ نوع من الانتماء أو الهويّة، فحافظ سعاويّ على ذلك وسمّى مخلوقه «الشسمه» أي «الذي لا اسم له» أو «الذي لا نعرف اسمه» باللهجة العراقيّة.
روايات وأفلام كثيرة استوحت من النصّ الأوّل، من نصّ الفتاة الشابّة التي ما كتبت روايتها إلاّ في سبيل ربح رهان لإثبات نفسها ومخيّلتها، فانتصرت على اثنين من كبار أسماء الأدب البريطانيّ وهما برسي شِلي (حبيبها وزوجها لاحقًا)، واللورد بايرون (شاعر رومنطيقي ذائع الصيت)، انتصرَت ماري شِلي وانتصر معها فرانكنشتاين.
فرانكنشتاين هو الشاب العالِم الطموح، هو المتعلّم النهم، صنع انسانًا، بثّ الحياة في جسد ميت، صنع فرانكنشتاين كائناً تماماً، وطلب منه كائنه أن يخلق له خليلة تماماً. وقد أسبغت شِلي على بطلها فيكتور فرانكنشتاين صفات الجبروت عمداً، حتّى اسمه «فكتور» اختارته لأنّه أحد أسماء الخالق التي يمنحه إيّاها جون ميلتون في مجموعته الشعريّة «الفردوس المفقود» التي اختارت شِلي أن تفتتح نصّها باقتباس منها. فهي إذن ملأت نصّها بمؤشّرات وأمارات دقيقة حوّلت فيكتور إلى خالق عاجز عن التحكّم بمخلوقه، وكأنّها تتوقّع لإنسان المستقبل قدرته على الخروج على السلطة الكونية وارتكاب الشرور على أنواعها.
غير أنّ فرانكنشتاين لم يلبِّ طلب مخلوقه، ولم يخلق له خليلة، ولم يعتنِ به، ولم يحرص على سلامته، ولم يرد له أن تكون له سلالة من بعده، بل نراه ينفر من مخلوقه ويبحث عن سبل لإهلاكه فتنتهي الحرب بأن يقتل المخلوق خالقه. قتل المسخ أحبّاء خالقه فيكتور فرانكنشتاين جميعهم، من شقيقه، إلى مربّيته فصديقه فحبيبته إلى أن تمكّن من القضاء عليه.
أمّا السؤال الذي لا بدّ من طرحه فهو: إلى أيّ مدى يمكن اعتبار رواية شِلي رواية رعب؟ فهذا النصّ الأدبيّ الرمزيّ الرائع الذي عولج كثيراً في الأدب والسينما والفنّ عموماً، إنّما يترجم هاجس الانسان العتيق في إيجاد إكسير الحياة، يترجم رغبة الانسان في الانتصار على الموت. صحيح أنّ الرواية تدور في جوّ كابوسيّ، وصحيح أيضاً أنّها رواية قوطيّة، لكنّها تنقل حاجة الانسان الأولى إلى الانتصار على الموت، غريزته إلى سبر أغوار ما بعد الحياة، هذا الغموض الهائل في حياته والذي يعجز أمامه. إنّه التوق الأزليّ إلى المعرفة، إلى اكتشاف سرّ الحياة، سرّ الخلود، توق بدأ مع آدم وجلجامش وأكمل مع إيكار وكلّ قصص أبطال الميثولوجية المصريّة والإغريقيّة: قصص أبطال رغبوا في معرفة المزيد لكنّ الآلهة صعقتهم وعاقبتهم، إنّما هذه المرّة المخلوق هو الذي عاقب الانسان .
اما عجزُ فكتور فرانكنشتاين أمام الموت فهو نفسه عجز ماري شِلي. ورغبته في تخطّي الموت وإحياء الأرواح المفقودة هي نفسها رغبة شِلي، فالكاتبة عرفت الموت في سنّ صغيرة، عرفت أن الموت والحياة مرتبطان ولا يفصل بينهما سوى خيط رفيع تحوكه الأقدار ولا يمكن التكهّن بلحظة قطعه. توفّيت والدة شِلي عندما ولدَتْها، وخسرت شِلي ابنتها هي الأخرى عند ولادتها، فارتبطت الحياة بالموت في كتابات الفتاة الشابّة وصار هاجس إيجاد مفرّ من الموت، هاجساً يعشّش في ثنايا روحها ولا وعيها وكتاباتها، فمنحت بطلها القدرة على إحياء الأموات. ولكن حتّى هو لم يستطع إكمال مَهمّته.
«فرانكنشتاين» هي قصّة بروميثيوس الجديد، الذي يسرق نار المعرفة ويبثّ الحياة في جثة ميتة وينال العقاب بأن يخسر كلّ عزيز على قلبه ويموت في حسرة على مستقبل أضاعه بإرادته. «فرانكنشتاين» رواية ماري شِلي الخالدة في الأدب العالمي نقلها إلى العربيّة هشام فهمي بلغة جميلة رقيقة جذلة، تحرّك المشاعر وتنقل غضب الشخصيّات وعواطفها وتقلّباتها بكلّ دقّة وأناقة. وأسلوب الرواية قائم على المراسلة وهذه الرسائل التي يرسلها الكاتب روبرت والتون إلى شقيقته مارغريت سافيل هي التي تنقل للقارئ قصّة فرانكنشتاين ومخلوقه القبيح وقصته المحزنة. فهذه الرسائل منحَت مكاناً وزماناً وإطاراً واقعيّاً للقصّة وأضفَت عليها المزيد من بريق الغموض والسوداويّة لأنّها قرّبتها من القارئ ومنحته الشعور بأنّ اللعب بمسائل الحياة والموت أمر خطر، وأنّ الذي ينازل الآلهة في لعبتها لا ينجو من العقاب مهما كان.